إنها السيدة خديجة تنادي
والدها الجالس قربها و قد أخذته الذكريات بعيدا، فقد جهزت طاولة العشاء أمامه:
_"نعم يا ابنتي، أنا
أسمعكِ.."
_"فيما كنتَ تفكر؟"
_"لا شيء يا ابنتي..هيا،
ناوليني قليلا من الحساء، إنني جائع"
_"حسنا"
و يخوض الأب في شرب الحساء،
بينما تتوارى للسيدة خديجة وجوه أفراد أسرتها داخل الطبق الذي أمامها، وتظل تصنع
بملعقتها دوامات صغيرة من الحساء:يبدو أن شهيتها مغلقة.
في هذه الآونة، كان الولدان و
أختهما فاطمة قد التفوا حول والدهم المريض، الذي ما زال على حاله: حمى شديدة، و
سعال يهز أضلع قفصه الصدري، يصدر أنينا من حين لآخر يعبر به عن عمق ألمه، و لا
مخففا له من الداء سوى قطعة القماش المبللة، التي تبدو كقطعة ثلج وسط نار موقدة لا
تجد سبيلا إليها لكي تخمدها أو تحد من حرارة لهبها.و كان الأولاد يرمقون والدهم
بنظرة ملئها الحنان و الشفقة، فلا تكف فاطمة عن تربيت يد السيد إبراهيم، أما خالد
فقد كان يراقب باهتمام كبير وجنتي والده الحمراوتين من شدة حرارة جسمه.فيما حسن
يفكر في مآل أبيه إذا ما استمر على هذا الحال، خصوصا في ظل غياب الأم، فما أحوج
الأسرة الآن لوجودها بينهم، فقد تجدي إحدى تركيباتها النباتية في التخفيف عن الأب
المسكين.
مرت ساعتين، و لم تكن تسمع
سوى عبارات تحاول من خلالها فاطمة التخفيف من وطأة المرض عن أبيها، عبارات لم تكن
مجدية لكنها تعبر عن تضامن الأبناء مع والدهم رغم ما يعانونه أحيانا جراء معاملته
السيئة لهم، و رغم ما قام به تجاه ابنته قبل أيام في ذلك الشجار الذي سيبقى محفورا
في ذاكرة هذه العائلة.
نطق السيد إبراهيم بصعوبة
موجها الكلام إلى أبناءه:
_"انهضا يا ولديّ، و
اخلدا للنوم، فغدا ستذهبان إلى المدرسة..أ أكلتما شيئا؟"
فيشير الابنان برأسيهما
مؤكدان أنهما قد تناولا بعض الطعام، ثم يكمل الأب الحديث:
_"..آه، هيا إلى
مضجعيكما، و أنتِ يا فاطمة، احضري لي بعض الماء، و اتركيه هنا بجانبي..علني
أحتاجه..و اخلدي أنتِ أيضا للنوم..آه، فقد أتعبتكِ معي اليوم"
_"لا تقل ذلك يا أبي،
فأنا ابنتك"
فيقبل الابنان يد والدهما و
يغادران إلى الغرفة الأخرى، فيما تسرع فاطمة في إحضار بعض الماء كما طلب منها
السيد إبراهيم الذي اشتد عليه المرض، لدرجة أنه يحس بأن أطرافه تحترق.وضعت فاطمة
إناء به ماء قرب أبيها، و جلبت وسادة و غطاء، إذ قررت أن تنام هذه الليلة بجانب
والدها المريض، قالت وهي تعد مكانا نومها:
_"سأنام هنا بجانبك يا
أبي، إذا احتجت للمساعدة فلا تتردد في مناداتي..بماذا تشعر الآن؟هل خفت حرارتك
قليلا؟"
_"إنني أحسن حالا من ذي
قبل..لا تقلقي يا ابنتي"
لكنه كان يخفي الحقيقة بقوله
هذا، فهو يحس بأن الوضع يزداد سوءا كلما مر الوقت.غطت الابنة والدها جيدا، و بللت
قطعة القماش و أعادت وضعها على جبينه الملتهب، ثم أمسكت يده اليمنى بكلتا يديها، و
ضغطت عليها بشدة ثم قبلت رأس والدها و همست في أذنه بصوت رقيق:
_"لا تقلق يا أبي، سوف
تكون على ما يرام غدا إن شاء الله"
ثم تنهض و تطفئ النور، و تلج
فراشها، و ما إن لامس رأسها الوسادة حتى تغلغلت الدموع في عينيها، أحست بشعور غريب
ينتابها، و بدأ قلبها يخفق بقوة للحظات، ثم تأخذ نفسا عميقا، فتتساقط دموعها و هي
لا تدري تحديدا ما السبب، هل هي خائفة و قلقة من مصير أبيها؟ هل اشتاقت لوالدتها؟
هل أحوال الأسرة بشكل عام هي التي تشغل بالها؟، إنما الأكيد، أنه إحساس سيء
يراودها. مسحت دموعها و أغمضت عينيها محاولة النوم، لكن ذلك الشعور لم يفارقها
بعد، تحس بأن قلبها منقبض و أن شيئا ما
يجعل قفصها الصدري ينكمش.استمرت على هذا الحال لنصف ساعة تقريبا، ثم..و
فجأة، خطر ببالها أن والدها قد فارق الحياة، قامت من فراشها بسرعة و أنارت الغرفة
و وثبت في اتجاه السيد إبراهيم، نادته للمرة الأولى و الثانية، فلم يجب، نادته مرة
أخرى بصوت عال و زحزحته، ثم...، فتح عينيه و قال مستغربا:
_"ماذا بكِ؟"
أجابت فاطمة بعد أن التقطت
أنفاسها و حمدت الله:
_"ظننت أنك ناديتني يا
أبي..ألم تفعل؟"
_"لا، لم أفعل ذلك
أبدا"
_"حسنا، كأنني سمعتك
تناديني..، اخلد و حسب إلى النوم و اعذرني لأنني أزعجتك يا أبي"
فتعيد وضع قطعة القماش
المبللة على جبين الأب، تطفئ النور من جديد و تعود إلى فراشها، و قد أحست بفرحة
العمر لأن ظنها قد خاب.
و في منزل الجد، يبدو أن الأرق يفعل فعلته
بالسيدة خديجة، لم تنم بعد، فقلقها يزداد كلما تذكرت كلام السيد عبد الله، ندمت
ندما كبيرا لأنها غادرت بيتها ذلك اليوم، لم يكن أمامها خيار آخر و قد ضاق صبرها،
و لكن ما تسبب حقا في ندمها هذا، هو اعتقادها بأن غيابها عن أسرتها كل هذا الوقت،
هو ما جعل السيد إبراهيم يصاب بالمرض، بالإضافة إلى الشجار الذي حصل بينه و بين
الجد، إنها تظن الآن أن ما فعلته لم يجدي نفعا، بل إنه زاد من مشاكل الزوج، و ما
النتيجة؟ : إصابته بالمرض...لقد غيرت السيدة خديجة رأيها مرة أخرى، و جعلت تلقي
اللوم على نفسها، و أقرت لنفسها بأنها ارتكبت خطأ شنيعا.
إنها السادسة صباحا، استيقظت فاطمة و أيقظت
أخويها، حضرت الفطور لهما استعداد لذهابهما إلى المدرسة، و قبل مضيهما في الطريق،
أعلن حسن تغيبه عن الغداء، لأنه لا يملك الوقت للعودة إلى البيت نظرا لجدوله
الدراسي الممتلئ اليوم، فأخذت فاطمة تفتش عن بعض الدريهمات تعطيها له ليشتري بها طعاما
يتزود به، وجدتها و ناولتها إياه، ثم ترك الاثنان المنزل بخطى سريعة تحت أنظار
أختهما المملوءة عطفا و حبا.أقفلت فاطمة باب الدار، و عادت لتنشغل بأعباءها
المنزلية، و كلها أمل في أن تعود والدتها اليوم، بل وكلها أمل في أن يشفى
والدها كذلك و تعود هذه الأسرة من جديد لحياتها الطبيعية.خطت خطواتها في اتجاه
المطبخ، لكن فكرت في معاينة أبيها أولا و الذي بدا نائما عندما استيقظت.وجدته كما
كان عندما استيقظت، فلم تشأ إيقاظه و لا حتى الدنو منه، فضلت أن تتركه يرتاح لما
عاناه و ما زال يعانيه، رغم أن قسائم وجهه هذا الصباح تدل على أن حالته قد تحسنت،
فانصرفت لقضاء واجباتها.
تجاوزت الساعة السابعة و النصف بقليل، و
السيدة خديجة تستعد لمغادرة منزل والدها، ارتدت جلبابها الأبيض، و أخذت معها بعض
الطعام في كيس بلاستيكي، ثم تركت البيت بعد أن أغلقت الباب بإحكام، بينما السيد
عبد الله موجود في حقله كالمعتاد، فهو يقصده بعد فجر كل يوم.تتابع السيدة خديجة
السير و ما يشغل بالها هو حال زوجها، و هل أصبح في حال جيدة. عندما بلغت الحقل،
وجدت السيد عبد الله يروي أرضه، نادت عليه من على جانب الطريق، فأقبل عليها مسرعا،
و ما إن اقترب منها حتى سأل:
_"إلى أين أنتِ
ذاهبة؟"
_"إلى منزلي يا أبي..أ
نسيت؟"
_"لقد نسيت فعلا..،سبحان
الله، سرعان ما غيرتِ رأيك و قررت العودة"
_"و ماذا أفعل؟ في كل
الأحوال كنت سأعود عاجلا أم آجلا، و زوجي الآن مريض، هل من الأصح أن أمكث هنا حتى
يحل به ما لا يحمد عقباه؟"
_"حسنا، هذا ليس من
شأني..أبلغيه تمنياتي له بالشفاء العاجل، و أبلغي أيضا تحياتي للأولاد"
_"سأفعل ذلك يا
أبي..وداعا، و سامحني على ما أقحمتك فيه معي"
_"لا عليكِ، أنا والدك،
إذا احتجت إلى شيء فلا تترددي"
فتقبل السيدة خديجة يد أبيها
و تتركه ملتمسة طريقها نحو بيت زوجها بعد أن قضت أطول مدة غياب لها عنه، دامت
لأسبوع تقريبا.
و كانت فاطمة في هذه الأثناء تكنس عتبة البيت،
و الرجل المريض ما زال راقدا في فراشه، و لوهلة، فكرت الابنة في إلقاء نظرة على
أبيها، أ تراه استيقظ أم لا؟ و هل خفت حرارته هذا الصباح؟.دخلت و أغلقت الباب، تركت
المكنسة جانبا، ثم توجهت إل ى الغرفة التي يرقد فيها والدها..دنت منه و جلست
بجانبه..، وضعت يدها على جبينه لتتفقد حرارته..فوجدته باردا، أحست بالطمأنينة، ثم
قررت أن تناديه لكي يستيقظ، فعلت مثلما فعلت ليلة أمس، نداء للمرة الأولى،
الثانية، و الثالثة..لم يرد، راودها الشك، فحركته بلطف، ثم بقوة في المرة
الموالية، و بقوة أكثر في التالية، و لم يستجب، فأطلقت العنان لصرخة مدوية...لقد
فارق السيد إبراهيم الحياة.صرخة فاطمة تلك، كانت مصحوبة بسيل من الدموع، أخذت
تولول و تولول و تصرخ و تبكي..، سمعت السيدة فتيحة البكاء و الصراخ، فهرعت إلى
منزل جيرانها و وجدت فاطمة التي فتحت لها الباب تبكي بشدة، ما إن رأتها هذه
الأخيرة حتى ارتمت بين ذراعيها و قالت و
هي تواصل النحيب:
_"لقد مات أبي..لقد مات،
فارقنا و ذهب إلى دار البقاء، لن نراه مجددا بعد اليوم..لقد مات يا خالتي.. لقد
مات"...(يتبع)
إرسال تعليق