...في هذه الأثناء، كان السيد إبراهيم قد نام
لتوه، رغم أن المرض يكاد يقبض أنفاسه، فيما استمرت فاطمة تبلل قطعة القماش و تضعها
على جبين الأب من حين لآخر، و ماذا بإمكانها أن تفعل غير ذلك؟.ثم..، سمعت فاطمة
الباب يُطرق، فاتجهت نحوه راجية أن تجد والدتها خلفه، لكن آمالها ذهبت أدراج
الرياح عندما رأت وجه السيد محمد المشرق ابتساما ينتظر أن تطلب منه التفضل
بالدخول، فألقت التحية و قالت:
_"تفضل يا عمي، إن أبي
مريض جدا، و درجة حرارته تلسع..تفضل من هنا"
قادته إلى الغرفة التي ينام
فيها السيد إبراهيم الذي ما إن سمع السيد محمد ينادي عليه حتى أفاق من قيلولته وهو
ما زال في بدايتها:
_"كيف الحال يا أخي؟
قالت لي زوجتي أنك مريض"
_"نعم كما ترى يا
أخي..إن الحمى تكاد تقتلني..آه.."
_"يحفظك الله..لا تخف،
سرعان ما ستشفى و تعود إلى حالتك الطبيعية، و تصير أحسن إن شاء الله"
ثم يخيم الصمت على الغرفة
لوهلة فكان لا يُسمع إلا أنين السيد إبراهيم الذي كان يبدو شديد الحُمرة من ارتفاع
درجة حرارته، يستفسر السيد محمد:
_"ألم تتناول دواء ما
يساعدك على تجاوز مرضك؟"
يجيب السيد إبراهيم بحسرة:
_"لا،لم أفعل،..لم يتبقى
لنا منه شيء..آه..كنت قد أحضرت دواء للحمى..لكنه نفذ منا الأسبوع الماضي.."
يُخرج السيد محمد قرصي الدواء
من جيبه و يقول:
_"لقد جلبت لك هذا
الدواء، إنه دواء للحمى ابتعته من المدينة هذا الصباح"
أخفى السيد محمد حقيقة الأمر و ذلك لكي يتكتم
على أنانية السيدة فتيحة. تناول السيد إبراهيم الدواء أمام أعين
السيد محمد الذي أشفق على حال جاره و دعا له بالشفاء قبل أن يستأذنه لكي ينهي
الزيارة، فخرج و ترك السيد إبراهيم يكمل قيلولته.أحست بعد ذلك فاطمة بارتياح كبير،
و حمدت الله لأنه أرسل لوالدها من ينجده بقليل من الدواء.
في الطرف الآخر للقرية، كانت
السيدة خديجة جالسة أمام الرحى تطحن بعض الحبوب غير ملمة بما يحدث في منزل زوجها،
اشتاقت لأبنائها و حنت لسماع أصواتهم، تفكر باستمرار في الحال المزرية التي هي
عليها، ظلت تدير الرحى و تنشد على إيقاعاته ألحان الهم و الغم، و الدموع
تملأ عينيها من حين لآخر كلما تذكرت بعض اللحظات الصعبة التي عاشتها رفقة زوجها و
أولادها، و تُرسم الابتسامة على محياها كلما استحضرت حادثة طريفة أو سعيدة وقعت
لأحد أفراد أسرتها.
حل الليل و خيم الظلام على القرية، فلا تسمع
سوى نباح الكلاب و حفيف الأشجار كلما هب النسيم.ها هو السيد عبد الله عائد من
المسجد بعد أدائه لصلاة العشاء، و قد سمع من بعض أصحابه أن السيد إبراهيم مرض هذا
اليوم و أنه لم يفتح الدكان.وصل إلى البيت، فتح باب المنزل و دخل، و وجد أن ابنته
منهمكة في إعداد الحساء، دنا منها و بعد أن ألقى التحية سأل:
_"هل جهز الطعام؟"
_"تقريبا"
_"حسنا، أسرعي يا ابنتي
في تحضيره لأنني متعب وأريد أن أنام لكي استيقظ غدا باكرا إن شاء الله"
ثم صمت لوهلة و قال:
_"لقد علمت اليوم بأن
زوجك مريض"
فتنظر إليه السيدة خديجة و
تقول بلهجة ذعر:
_"مريض؟كيف ذلك؟و ما هو
مرضه؟"
_"لا تقلقي، إنه مصاب
بحمى طفيفة"
_"يجب أن أذهب يا أبي،
لعله مريض جدا و يحتاج لمن يرعاه"
_"يحل صباح غد و تذهبين
أنذاك إن شاء الله"
_"لا يا والدي، سأذهب
الآن"
تقف السيدة خديجة مصرة على
قرارها، فيقول السيد عبد الله غاضبا:
_"تذهبين الآن؟ألا ترين
أن الظلام قد اجتاح القرية و أن الوقت تأخر؟"
_"أرجوك يا أبي، أريدك
أن ترافقني إلى هناك"
_"قلت لك لن تذهبي حتى
يحل الصباح..أ نسيتي ما فعله بكِ؟ و الآن عندما سمعت أنه مصاب ببعض الحمى الطفيفة محوت
كل شيء من ذاكرتكِ و تريدين العودة بهذه السهولة؟"
_"رغم كل ما فعل و كل ما
سيفعل سيبقى زوجي يا أبي"
يواصل الأب نهره لابنته بغضب:
_"اجلسي، لن تتحركي من
هنا حتى يحل الصباح، إنه مصاب بحمى خفيفة سرعان ما سيشفى..هو دائما على هذه الحال، كل
أسبوع يصاب بالحمى و السعال ثم يشفى بعد مرور يوم أو يومين، هذه أصبحت عادة
لديه"
_"لقد أصبح يمرض كثيرا
في الشهور الأخيرة، و كنت دائما أنصحه بأن يقصد المدينة و يزور الطبيب، لكنه لا
يفعل..أرجوك يا أبي رافقني إلى المنزل، فقد يكون بحال صعبة الآن"
فينظر إليها والدها و يقول
مبتسما:
_"يا لكِ من متسرعة، غدا
تذهبين إلى بيتكِ و ستجدينه قد تعافى تماما من المرض، إنها حمى طفيفة فقط، هذا ما
قاله لي بعض الأصدقاء..الآن قومي و حضري لنا العشاء، و لا تقلقي بشأنه..و إن غدا
لناظره قريب"
تنصاع السيدة خديجة لإرادة
والدها، و تقرر أن تنتظر حلول الصباح لكي تتوجه إلى منزلها و تعود لترعى زوجها
المريض. و ما هي إلا لحظات حتى كانت السيدة
خديجة تعد طاولة العشاء، بينما كان السيد عبد الله يفكر في حال ابنته، رغم ما حصل
لها من إساءة و رغم ما حدث لها هذه الأيام، رمت بكل شيء وراء ظهرها و قررت التنازل
عن مطالبها بسهولة بعد أن علمت أن زوجها مريض، إنها امرأة طيبة القلب حقا، بوسعها
فعل أي شيء في سبيل أبنائها و زوجها، لقد ذكرت الجد بزوجته المتوفية، السيدة
عائشة، كانت كذلك تملك صبرا يخرق الحدود، عانت الكثير هي أيضا، لكنها بقوة تحملها
و صبرها و سعة صدرها وقفت أمام المحن و الصعاب و واجهت مرارة الحياة بكل ما أوتيت
من قوة، لكنها رحلت إلى دار البقاء...امتلأت عيون السيد عبد الله بالدموع..كانت
شريكة حياته و أحلامه و مشاعره، و كذا همومه، فلطالما أخبرها عن مشكل عالق بذهنه و
فكت هي بفطنتها رموزه...(يتبع)
إرسال تعليق