...مع اقتراب موعد غروب الشمس، غادر الأبناء منزل الجد، عانقوا والدتهم واحدا تلو الآخر، و رجوها أن تعود إلى مستقرها الطبيعي بسرعة، راقبتهم الأم و هم يسيرون مبتعدين حتى اختفوا عن الأنظار.أقفلت الباب و عادت لتجلس بجوار والدها و غيمة من الحزن تحجب وجهها، تتمنى أن تحل مشكلتها بسرعة، لكي تعود لحضن عائلتها الصغيرة. لحظات بعد ذلك، نطق السيد عبد الله قائلا:
_"لقد قابلت زوجك عصر
هذا اليوم في دكانه"
فتسأله السيدة خديجة متلهفة:
_"و ماذا قلت له؟ و ماذا
قال لك؟"
_"حدثه بخصوص الموضوع، لكنه،
و بلا حياء، صرخ في وجهي حتى ظننته سيصفعني.."
فتقاطعه السيدة خديجة قائلة:
_"من دون شك، قلتَ له
كلاما لم يعجبه، لذلك صرخ في وجهك، فهو لا يطيق أن ينصحه أحد أو..، و لكنه يحترمك
و يقدرك و سيستمع لما تقول..،لربما وبخته أو شيء من هذا القبيل"
_"لا لم أفعل، كل ما في
الأمر أنني أردت أن أنصحه، لكنه رجل عنيد، بدأ يزمجر و يصرخ في وجهي.."
_"و ماذا فعلت بعد
ذلك؟"
_"خرجت و تركته، ماذا
تريدينني أن أفعل؟"
_"كنت لتحاول التكلم معه
بهدوء علك تقنعه ليعترف بأخطائه"
_"أنا أنصح من يقبل
النصيحة، أما أمثاله فلا يستحقون أية التفاتة"
ثم تضع السيدة خديجة يدها على
خذها الأيمن يائسة، فقد كانت تأمل أن يجعل والدها زوجها يأتي إلى هنا ليصطحبها و
تعود المياه إلى مجاريها.
مرت ثلاثة أيام أخرى، و الأحوال ما زالت كما
هي عليه، إلا أن السيد إبراهيم لا يشعر بحال جيدة هذا الصباح، درجة حرارته مرتفعة،
و يسعل من حين لآخر بشدة، منذ استيقاظه مكث في فراشه، نادى على ابنته فاطمة
مستنجدا:
_"فاطمة..يا فاطمة..آه.."
تسرع الابنة من المطبخ
مستجيبة:
_"نعم يا أبي"
_"هل بقي لدينا بعض
الأقراص من دواء الحمى؟"
_"لا يا أبي، آخر واحدة
كنت قد تناولتها قبل أسبوع..ماذا أصابك أبي؟ هل أنت على ما يرام؟"
_"الحمى و الزكام يكادان
يقتلانني، ابحثي لي عن دواء ما أشربه..آه..أو عن شيء ما يخفف عني قليلا"
تغيب فاطمة عن أعينه و تعود
في لمح البصر حاملة معها إناء به ماء و قطعة من القماش، و شرعت تبللها و تضعها على
جبين الأب بروية و رفق، ثم قالت:
_"سأذهب و أسأل السيدة
فتيحة إن كان لديها دواء ما يخفف عنك ألمك يا أبي.. لن أتأخر"
السيدة فتيحة هي زوجة السيد
محمد الفلاح و الجار الطيب، هذه الصفة التي تشبع بها، افتقدتها زوجته، امرأة تعيش
ربيعها الأربعين، أم لأربعة أبناء: ثلاث فتيات و ولد واحد يُدعى مصطفى، و هو الأكبر
سنا، إذ يبلغ من العمر ثماني عشرة سنة، عاطل عن العمل بعد انقطاعه عن
الدراسة في المرحلة الابتدائية.
طرقت فاطمة باب منزل الجيران،
ثم سمعت أحدهم يسأل:
_"من الطارق؟"
ردت فاطمة:
_"أنا فاطمة"
فُتح الباب و خرجت السيدة
فتيحة، ألقت فاطمة التحية و ردت السيدة فتيحة بالمثل قبل أن تسأل:
_"ماذا هناك؟ هل من خطب
ما يا فاطمة؟"
_"إن والدي مريض، و
يحتاج إلى حبة دواء ضد الحمى، هل أجد لديك واحدة يا خالتي؟"
_"سأرى علني أجد إحداها
في مكان ما؟"
غابت لوهلة ثم عادت و هي
تقول:
_"لم يتبقى لدينا أي
واحدة يا ابنتي..،أنا آسفة، لكن يمكنكي أن تضعي على صدغي والدك بعض الليمون إذا ما
توفر لديكم"
_"حسنا، أشكرك يا
خالة"
قالتها فاطمة و هي تشعر بخيبة
أمل كبيرة، إذ أن أملها الوحيد في الحصول على الدواء كانت الجارة السيدة فتيحة،
فما العمل إذن؟.من سوء حظ سكان هذه القرية أنهم لا يتوفرون و لو على مستوصف صغير
يستطيع تسكين آلام مرضاهم و تضميد جروحهم الجسدية على الأقل، و ما بالك بتوفير ظروف ملائمة لتضميد جراحهم المادية و المعيشية.تعود فاطمة إلى البيت
بخفي حنين، و هي تفكر في وسيلة تخفف بها من وطأة المرض عن أبيها، فلم تجد سوى بعض
الأعشاب في الخزانة، قامت بهرسها و طحنها و ناولتها لأبيها الذي بلعها بشربة ماء،
ثم جعلت تضع بعجز قطعة القماش المبللة على جبين الأب و هي تتأمله في صمت تقطعه من
حين لآخر آهات السيد إبراهيم الذي يصارع مرضه ما دام الدواء غير موجود.
الناس هنا في القرية يتجهون
إلى المدينة لابتياع بعض الأدوية من حين لآخر، حتى لا يفاجئوا بالمرض يغزو ذات أحد
أفراد أسرتهم و هم دون مسكنات و لا وسائل حماية يستطيعون استعمالها ضد الوباء، إلا
أن القدر هذه المرة اختار أن يلقي المرض شباكه و يلف السيد إبراهيم و قد نفذت مؤنه
العلاجية.
وقت الزوال، عاد السيد محمد إلى البيت، بعد
صباح شاق في الأرض، و قد أهلكه التعب و خارت قواه.بعد وجبة الغذاء، جلس السيد محمد
يحتسي الشاي و يتحدث إلى زوجته، بدأ الزوج في نسج خيوط الحديث قائلا:
_"لقد اقترب موعد
الحصاد، أظن أن هذا الموسم الفلاحي أجود من سابقه، و لعل الخير قادم من عنده عز و
جل"
ترد السيدة فتيحة:
_"الحمد لله و الشكر لله..،
و لكن، قل لي، هل ستجد هذا العام من سيقدم لك يد العون أثناء الحصاد أم أنك ستعتمد على مصطفى
فقط كما فعلت في السنتين السابقتين؟"
_"ما زلت أبحث لم أجد
أحدا بعد.. و لنطلب العون من الله"
انقطع الحديث للحظة، ثم
استرسلت السيدة فتيحة بعد ذلك:
_"تذكرت، نسيت أن
أخبرك..جاءت عندنا هذا الصباح فاطمة، ابنة السيد إبراهيم، جاءت تطلب دواء للحمى،
قالت إن أباها مريض، لكنني لم أعطها إياه، فلم يتبقى لدينا إلا القليل منه، أخاف أن
يصاب أحدنا بالمرض يوما و لا نجد ما يساعد على.."
فيقاطعها السيد محمد و يقول
غاضبا:
_"حرام عليكِ ما تفعلين،
الرجل مريض و أنت تخفين عنه الدواء، أنت لا تهمك سوى مصلحتكِ،..أعطيني من ذلك الدواء الآن، و اتركيني أتوجه به إلى جارنا المريض"
_"و لكن، أنت تعلم أننا
سنحتاج إليه في يوم ما، و تعلم أنه لجلبه عليك التوجه إلى المدينة، و لا قدر الله
إذا ما أصيب أحدنا بالمرض و لم يكفينا ما لدينا من حبيبات الدواء ماذا سنفعل؟
سينتظر المريض من يجلبه له من المدينة، أنذاك ماذا سيحل به؟ زد على ذلك أننا لم
نعد نملك إلا القليل منه"
_"و لو، سنغيث به جارنا و
سنقف بجانبه حتى يشفى، هيا انهضي و اجلبي لي بعضا من تلك الأقراص.."
أطاعت الزوجة أخيرا و أحضرت قرصين من الدواء،و بدوره،
أخذ الزوج يغير ثيابه متأهبا لزيارة جاره السقيم...(يتبع)
إرسال تعليق