رواية "لو كان الفقر رجلا لقتلته"_ الخبر الصاعقة


و ما هي إلا لحظات حتى امتلأ منزل الفقيد بالناس القادمين لمواساة الأسرة و السير وراء جنازة الميت..يا لها من معضلة.
أما السيدة خديجة، فما زالت لم تصل بعد، و هاهي الآن اقتربت، تجاوزت البحيرة، تجاوزت المنعطف الأخير، لتلمح من بعيد بعض الناس أمام منزلها، فتساءلت عن السبب، أ تراه مقر الدكان الذي تغير؟ فابتسمت من هذا التخمين المستبعد، و تذكرت..، فجهرت بسؤالها محدثة نفسها:
_"ماذا حدث؟..هل..؟"
فانطلقت مسرعة، لا بل تركت سيقانها تسابق الرياح، ظلت تعدو و تراقب البيت، تبحث عن دليل يفند ما يدور برأسها، تعدو و تعدو..، حتى اقتربت أكثر، سمعت البكاء و النحيب، فصرخت و اندفعت وسط أولئك الذين كانوا خارج البيت، اندفعت إلى عقر الدار، ثم إلى الغرفة التي كان يرقد فيها زوجها المتوفى، رمت بنفسها على الأرض جانبه، و أمسكت به صارخة و وراءها بعض النساء تحاولن سحبها و منعها من مواصلة حماقتها، تزيل الغطاء الموضوع على وجهه، و تزحزحه عن مكانه قائلة بصوت عالٍ و دموعها تتزايد:
_"أجبني، انهض أرجوك..انهض، أستحلفك بأغلى ما تحب..أجبني، انهض فأولادك بحاجة إليك..، أرجوك..أرجوك، أرجوووك.."
خارت قوتها و سقطت مغمى عليها، فتعالت أصوات الصراخ من هنا و هناك، بينما كانت فاطمة أمام عتبة الغرفة، تضع رأسها على حافة الحائط، تراقب المشهد، و دموع دموعها تتساقط.
إنها مأساة حقيقية أن تأتي هذه الفاجعة وسط هذه الظروف التي تمر بها الأسرة، عراك بين الزوجين، غياب الأم عن بيتها، المرض المفاجئ الذي ألم بالزوج، ثم رحيله إلى العالم الآخر. كادت ابنته و زوجته تجنان من هول الصدمة.
    كلما مر الوقت في منزل السيدة خديجة إلا و امتلأ بأناس من سكان القرية أتووا لتعزية أسرة المرحوم، و كلهم يجمعون على رأي واحد و ينطقون بجملة واحدة:"سبحان الله، بين ليلة و ضحاها زهقت روحه".
 الساعة الآن تقارب العاشرة، و قد استعد مجمع من أهل القرية للمشي وراء الجنازة. سار الموكب الصغير و هم يهللون و يكبرون، وسط ضجيج النحيب و البكاء من ِقبل بعض النساء اللواتي اجتمعن أمام بيت الفقيد رفقة الأم و ابنتها اللتين عانقتا بعضهما البعض تولولان و الدموع تتقاطر على الخدين تراقبان مسير جنازة كبير العائلة و هي تأخذه إلى مضجعه الأبدي.  
انتهت مراسيم الدفن، و انصرف الكل إلى حاله، إلا أن الدار ما زالت مكتظة، و على غير عادتها سارت مملوءة بأصناف الأطعمة التي يصنعها نساء القرية للحاضرين هناك 
ارتدت السيدة خديجة لباس الحداد الأبيض، جلبابها الأبيض المعتاد، وشاح أبيض و جوارب بيضاء، و جلست في أحد أركان البيت تعيد نسج خيوط ذاكرتها على أحداث مضت، و أكثر ما يحز في نفسها مفارقة زوجها للحياة و هي في نزاع معه، تُحمِّل نفسها ذنبا عظيما، لأنها تخلت عن زوجها و تركته ليواجه الموت و يفشل في مواجهته. أما فاطمة، فقد انشغلت بالكلام مع إحدى صديقاتها إلا أن الحدث لا يفارق ذهنها، و في كثير من الأحيان كان فكرها يأخذها بعيدا، إلى حيث تستطيع رؤية صورة والدها. أما حسن و خالد، فلم يعودا بعد، و لم يعلما بالخبر، فيا ترى ماذا سيكون رد فعلهما تجاه ما وقع؟؟..
    قاربت الساعة الثانية عشرة و النصف، و علمت السيدة خديجة أن ابنها خالد سيصل قريبا، متمنية أن يتمالك نفسه، خرجت تنتظر أن تلمحه من بعيد، و تكون معه لتخفف من أثر الصدمة عليه.و بالفعل، ها هو قادم من هناك، طفل صغير، يضع محفظته على ظهره، غير متوقع لما سيسمعه بعد قليل، يمشي هادئا، مبتسما، علامات البراءة ظاهرة على محياه، سعيد بعودته إلى البيت بعد يوم دراسي متعب. واصل السير، و في لحظة، انتبه لكون البيت يعرف حركة غير اعتيادية اليوم، أبصر بعض الرجال و النساء أمام المنزل، فاعتقد ببساطة أن والدته عادت و قرروا أن يصنعوا وليمة يدعون إليها أهالي القرية، فبدأ يركض فرحا و الضحكة تنقش قسمات وجهه، ظانا أنه سيلقى والدته هناك، و أن المنزل كله سرور و بهجة.كان محقا في اعتقاده الأول، لكن ما تنبأ به من حبور و سرور ليس صحيحا، بل العكس تماما، تراقبه والدته و هو قادم بعينين دامعتين، فتنهض و تسير بضعة خطوات تود استقباله، استقبال من نوع خاص، فما إن أبصر أمه حتى زادت سرعته، و تعالت ضحكته، أبصرها مرتدية لباسا أبيض خالصا فلم يكترث، فتح ذراعيه ليعانقها و بالمثل فعلت، عناق حار جمع بينهما، خالد أحس بقمة السرور و قال:
_" لقد اشتقت إليكِ يا أمي أهلا بعودتكِ"
أما هي، فقد أطلقت العنان للبكاء، رآها ابنها على تلك الحال و استغرب لذلك، نظر إلى مقربة منه أمام الباب، ليرى أن أخته هي الأخرى أجهشت بالبكاء، ليست وحدها، بل إن كل النساء الحاضرات لم يتحملن، ينظرن نحوه بشفقة، و قلة من الرجال هناك يحملقون ببؤس للصورة التي أمامهم و يقولون:
_"لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنا لله و أنا إليه راجعون.."
راودته فكرة أن أحدهم قد مات، لكن من هو يا ترى؟، فتذكر أن والدته ترتدي ثوبا أبيض، فتأكد أن أباه توفي، إلا أنه أراد أن يسمعها من أحدهم لكي يتأكد، فقالت السيدة خديجة بنبرة مملوءة حزنا و رقة:
_"يا إلهي ماذا فعلنا في حقك لكي يؤتم هؤلاء الأطفال، يا إلهي ألطف بنا، و انظر بعين الشفقة لهؤلاء الصغار.."
و الآن تيقن و علم بصحة الأمر، و ماذا بيده ليفعل غير أنه سار مع الرَّكب، و أفاض سيولا من الدموع، و ملأ الدنيا صراخا، وسط محاولة لتهدئته من طرف أمه و أخته و بعض الحاضرين الذين تأثروا للموقف، و انشقت قلوبهم، و دمعت عيونهم.
عدد لا بأس به من الذين أتوا للتعزية، تارة كانوا يتكلمون و يتجاذبون أطراف الحديث، و تارة يبكون و يتألمون، و تارة أخرى يتناولون بعض الخبز الجبلي و يشربون الشاي الذي كان يعده أمثالهم من القادمين لمواساة عائلة السيدة خديجة، فبقي الحال كما هو عليه طيلة اليوم، و الناس يتساءلون عن غياب الابن حسن، فكانوا يستفسرون عن ذلك إما من فاطمة أو من والدتها، فكانتا تجيبان بأنه موجود بالإعدادية غير عالم بما جرى.
   بدأ المنزل يفرغ من عدد الرؤوس البشرية، و في تمام السادسة مساء، لم يتبقى إلا بعض المقربين جدا لأفراد الأسرة، فهناك الجد السيد عبد الله و الجارة السيدة فتيحة و زوجها السيد محمد، و قد ساد صمت رهيب عليهم يُمحى في بعض الأحيان من طرف السيد محمد و السيد عبد الله بحديثهما عن الأحوال الزراعية بالمنطقة.و في هذه اللحظة أيضا، كان حسن يهم بالعودة إلى المنزل قادما من الإعدادية، غير ملم بما حدث، و ما يدور في رأسه ليس سوى الدرجة الممتازة التي حصل عليها في أحد الامتحانات، و استحسان و رضا الأستاذ عن عطاءه، يخطو خطوات مسرعة، مشحونة بشحنات الفرح الذي كان يدب في سائر جسده.ظل يسرع الخطوات مهنئا نفسه بالنقطة التي حصل عليها، و لم يتبقي إلا القليل لكي يصل إلى البيت، و قرب البحيرة، التقى ابن الجار، مصطفى، الذي كان رفقة أحد أصحابه، فألقى حسن التحية مبتسما، و ابتسم مصطفى بدوره و دون أن يرد التحية قال و كأنه فرح لما حدث أو كأنه يستهزئ من عدو له و ابتسامته تلك عريضة على وجهه:
_"لقد مات أبوك"
هكذا، و ببرودة دم، قالها و ببساطة، و دون أن يلتفت إلى حسن بعد ذلك و واصل طريقه رفقة صديقه، فما كان بحسن ليفعله غير أنه تسمر في مكانه غير مصدق لما سمع، ظن أن مصطفى يمازحه، خصوصا و أن الطريقة التي تكلم بها توحي بذلك، فواصل السير و لكن هذه المرة ببطء مسدلا رأسه، و فكر في كلام مصطفى:
_"أ يمازحني أم ماذا؟ لو توفي والدي حقا لما قالها بهذه الطريقة و لَقَدِم لتعزيتي بلطف، صحيح أن والدي مريض لكن هل توفي هكذا بغثة و هو مصاب فقط ببعض الحمى...؟"...(يتبع)

Share this:

إرسال تعليق

 
Copyright © واويزغتــي | فين ما مشيت . Designed by OddThemes | Distributed By Gooyaabi Templates