..ظل حسن يفكر في الأمر لوهلة..، غريب هذا الذي قام به مصطفى، فانطلق كالسهم يجري و الدموع تغطي خديه متمنيا أن يكون ما سمعه قبل لحظات غير صحيح، و قال في نفسه:"يا لها من كارثة، لقد توفي أبي، لا أصدق ذلك، غير ممكن أن يحدث هذا، عل كلام هذا الولد يكون مزاحا..".وصل، و وجد الباب مفتوحا، فدخل و وجد أمه مرتدية اللباس الأبيض، فتجمد في مكانه مزيلا أي شك بخصوص ما قاله مصطفى، و جفت الدموع من عينيه، فنهض الكل، و عاد النحيب و البكاء يغمر المنزل ضجة، و الجد يحاول تهدئة الأمور، لكن من دون جدوى.
لحظات بعدها، جلس الجميع و
هدؤوا تدريجيا، لكن حسن نهض و ألم بالخروج، و والدته تناديه:
_"إلى أين أنت ذاهب يا ولدي؟
حسن..؟ يا حسن؟"
لكنه لم يلتفت، فخرج يقصد
مكانا هادئا يعرف أن أباه كان يعتاد زيارته بين الفينة و الأخرى.
يقصد حسن المكان المحبب لدى والده، المكان
الذي كان يرتاح فيه، يتأمل من خلال المناظر المحيطة به جمال الطبيعة حيث المياه
الرقراقة للبحيرة، و الأشجار الوافرة الظلال، زقزقة العصافير التي تملأ المكان
لحنا عذبا، و النسيم العليل الذي يهدي بدوره لحنا طبيعيا آخر كلما لامس أوراق
الأشجار.وصل إلى الركن المقصود، فوقف يتذكر لحظات كان قد عاشها رفقة أبيه بهذا
المكان، لحظات لن تنسى أبدا و لن تمحى من ذاكرته بتاتا، هنا كان يسمع من والده
سيرة حياته المليئة بالمصاعب و الأحزان، هنا كانا يتسامران حتى وقت متأخر من
الليل، هنا كانا يتنافسان بكل مرح و فرح على اصطياد أكبر سمكة، هنا ذكريات لن تعاد
مهما مر الزمن، لأن الأب، رفيق درب الابن، قد رحل. جلس فوق تلك الصخرة التي كان
يجلس فوقها والده و هو يدخن السيجارة و يستمع إلى المذياع...ذكريات لن تزول و لن
يتراكم عليها الغبار و لو مرت السنين، و لو طال العمر، لأن حسن
واثق من أنه سيحفظ ذكرى أبيه في قلبه و سيظل يتذكره كل يوم، بل و كل ساعة، كل لحظة
يستطيع من خلالها استرجاع صفحات من مذكراته التي جمعته بوالده، كل لحظة تستطيع
رئتاه إدخال الهواء و إخراجه. ترك حسن المجال لذاكرته لكي تعاود سرد المواقف التي
حفظتها و هو رفقة والده، و آخر ما ترجمه فكره إلى صور أمام عينيه قبل أن يذرف بهما
دموع الأسى و الحزن، هي تلك المرات العديدة التي لعب خلالها الكرة معه، و حينما
كان يحمل الأب ابنه كلما سجل هذا الأخير هدفا، أو حينما كانا يتابعان أحد الفرق المحبوبة
لديهما على شاشة التلفاز و يشجعان بدون توقف، و عندما يأتي الفوز، يتعانقان و
يرقصان على إيقاعات الود و المحبة التي يكنانها لبعضهما و لفريقهما، فبدأ حسن يبكي
بصمت
..ثم، توقف حسن عن البكاء،
عندما تذكر أن الراحل لم يكن بصلة حميدة مع ربه، إذ كان لا يصلي و يدخن كثيرا و
يشرب الخمر أحيانا، فعزم على نصرة والده أمام الله عز و جل، بأن يدعو له بالرحمة و
المغفرة كلما صلى، و أن يتذرع إليه جل جلاله، ليسكنه بيتا من بيوت الجنة، دون كلل
و لا ملل، فهذا أقل ما يمكن أن يصنعه ولد لوالده، اعترافا له بالجميل الذي لا يرد،
و الأوقات الجميلة التي أمضاها برفقته.و لبث حسن في مكانه على هذا الحال، يبكي
لوهلة، يكف عن ذلك لوهلة، يراجع شرائط ذاكرته، و يستحضر صورة أبيه الذي غادر، غادر
و بلا رجعة في هذا اليوم الذي سيكتب على ذاكرة هذه الأسرة بقلم مداده غير قابل
للزوال، سيكتب تاريخ لحظة ستدخل ابتداء منها هذه العائلة، منعرجا آخر، و ستعرف
تحولا و تغيرا مع مرور السنين، يوم استثنائي فعلا، هبت ريحه قوية على رؤوس هؤلاء
المساكين، و لطمت أمواجه أجسامهم، و عجزت عيونهم عن إصلاح التسرب الحاصل في أنابيب
نقل الدموع.
طوي اليوم كتاب حياة فرد من أفراد هذه
الأسرة، تركهم يواصلون السير على درب الحياة وحدهم، كان قائدهم، و لو أنه لم يكن
يجيد القيادة، إلا أنه كان يملأ الفراغ كما ينبغي، و الذي سيستلم المقود، لن يكون
من السهل عليه إيصال هذه السفينة إلى بر الأمان، خصوصا و أن بحر الدنيا يحوز في
جعبته ما لا يُتوقع، و أرض الدهر إن لم تصنع طريقا سهلا، حوت حفرا من يسقط فيها
يصعب عليها الخروج منها، أو شكلت جبالا لا يبلغ قممها إلا من تحلى بالصبر، و قاسى
الأمرَّين، و تشبت بحبل مثين
مر أسبوعان على اليوم المشئوم، لم تشرق فيهما
الشمس على منزل أسرة السيدة خديجة، و غابت خلالهما الابتسامة و الفرحة، و حضرت
الدموع، و أرخى الحزن بظلاله على الجميع، فلم يزر الولدان حجرة الدرس منذ ذلك
الحين، و غاب النشاط عن أجسادهم، إذ كانوا يجلسون في غرفة واحدة قليلا ما ينطقون
ببعض الكلمات، و يرحبون من حين لآخر بزائر جاء ليخفف من وطأة المصيبة، يرحبون به
ليس بالتمر و الحليب، بل بالبكاء و النحيب.
و في
صباح أحد الأيام، و كالعادة، جلسوا بعد تناولهم الفطور، يتناوبون على وضع الأيدي
على الخدود، فكرهم شارد، باستثناء فاطمة التي تحاول تشجيع نفسها على نسيان الكرب و
الغم بأداء بعض الأعمال المنزلية من وقت لآخر.و لم يفارق الجد منزل الأسرة الحزينة
كل هذه الأيام، إلا إذا نادت عليه أرضه الصغيرة تطالبه بإمدادها بالماء.هذا
الصباح، أراد فتح ملف وجب النظر فيه، و قرر أن يسأل الأرملة عن تصورها المستقبلي،
فمهد لذلك بأنه طلب من الابنين الذهاب لجلب ما هم بحاجة إليه من ماء، ثم بعد حين،
خلا له الجو ليتكلم براحة مع ابنته، نظر في وجهها هي التي احتلت مكانا غير بعيد عن
مكانه، جالسة بصمت، و قال:
_"ابنتي خديجة..، ماذا
ستفعلون الآن؟هل ستستمرون في العيش هنا أم ماذا؟"
رفعت السيدة خديجة رأسها و
نظرت ناحية والدها ثم ردت متسائلة بأسلوب تملأه الحسرة:
_"و هل لدينا من ملجئ
آخر نأوي إليه؟"
يفسر السيد عبد الله قائلا:
_"لا، أعني أنه بإمكانكم
الانتقال للعيش معي و التخلص من عبء مصاريف الكراء"
_"لا يا أبي، سنبقى هنا
و لن ننتقل إلى أي مكان"
_"و لكن يا ابنتي، ماذا
ستفعلين لتوفير ثمن كراء المنزل؟"
_"سأعمل في الدكان من
طبيعة الحال"
_"و لكن لا يجوز لامرأة
مثلك أن تقضي وقتها تعمل و تكد و تتعب و تقوم بالعمل الذي يقوم به الرجل"
تعقب السيدة خديجة بلطف:
_"و كيف لا يا أبي؟ متى
كان العمل حراما على المرأة؟"
_"إنما إن انتقلتم للعيش
معي فستتخلصون من هم مصاريف اكتراء هذا المنزل على الأقل"
_"لا يا أبي، لا تشغل
بالك، سنبقى هنا، قد ألفنا هذه الدار التي جمعتنا لسنوات طوال"
_"و هل أنت مصرة على
العمل في الدكان؟"
_"أكثر من مصرة يا
والدي، و إلا كيف سيقتات أفراد هذه الأسرة؟"
_"حسنا، و لتأتي الأيام
بما فيه خير، نطلب من الله أن ييسر لنا ما سيأتي و يصلح لنا مستقبلنا و يجعله أحسن
من حاضرنا"
من الواضح أن السيدة خديجة قد خططت مسبقا لما هو
قادم، و قد أزاحت التردد و أغلقت أبواب التفكير في الأمر، غير أن السيد عبد الله
ما زال غير مقتنع برأي ابنته رغم إصرارها و إلحاحها، فهو يعلم صعوبة مزاولة المرأة
لمثل هذه الأعمال، و يعلم قسوة مصارعة الظروف لإعالة أسرة مكونة من ثلاث أبناء...(يتبع)
إرسال تعليق