... أسابيع قليلة بعد ذلك، كانت السيدة فتيحة في
زيارة للسيدة خديجة في منزلها، طقوس الضيافة المعتادة حاضرة، مائدة تحوي بعض اللوز
و إبريق شاي تفوح منه رائحة النعناع العطرة، و حولها السيدة خديجة و جارتها
تتجاذبان أطراف الحديث، و صيحات السيدة فتيحة تحدث قرعا في أذني فاطمة التي أخذت
مكانها بالقرب من والدتها، تتألم لرؤية والدة ذلك المعتوه تضحك و تمرح في قلب منزل
أسرتها، تعرفها جيدا، صيتها ذاع في القرية كلها، الجميع يعلم أنها تتمتع بخصال
مميزة، فهي أنانية و قاسية القلب لا تعرف معنى الرحمة، لسانها لا
ينطق إلا بما يسيء للناس، و كذلك هو ابنها، يشبهها كثيرا، فالتمر لا يسقط بعيدا عن
النخلة.. و ما يزيد الطين بلة، كونها تتحدث عن أولادها بفخر، تمدحهم و تحكي عن
محاسنهم التي يبدو أنهم لا يظهرونها إلا أمام والدتهم.كانت فاطمة لا تعير انتباها
لما يدور بين السيدتين من حديث، و أكثر ما يحز في نفسها هو أنها سمحت لهذه المرأة
بأن تلج البيت، لو علمت ما فعله ولدها الذي تعتز به لما استطاعت أن تري وجهها
لأحد، أو ربما لا..كانت لتدافع عنه و تصف متهمه بالكاذب..
_"فاطمة،
ما لكِ لا تشاركيننا الحديث؟"تقول السيدة حليمة.
_"أشعر
ببعض الدوار يا خالتي" ترد فاطمة.
_"لقد
بلغت فاطمة سن الرشد، و ازدادت جمالا و بهاء، إنها تحتاج لزوج الآن ليمتعها
بشبابها، أ ليس كذلك يا خديجة؟"
تبتسم
السيدة خديجة و تنظر ناحية ابنتها ثم تقول:
_"سأجد
لها الزوج المناسب إن شاء الله"
_"لست
محظوظة يا صاحبتي، لقد كنت لأختارها زوجة لابني مصطفى، فهو لن يجد أجمل منها في
القرية كلها"
فتنهض
فاطمة و تترك المجلس دون أن تنطق بكلمة، بينما السيدتين تنظران إليها باستغراب،
فتستفسر السيدة حليمة:
_"ما
بالها؟هل قلت كلاما في غير محله؟"
_"لا
عليكِ، إنها خجولة بطبعها، و الحديث عن الزواج يحرجها"
لا
تعلم السيدة فتيحة بأنها جرحت فاطمة بكلامها ذاك، أن يتزوج منها عدوها الأكبر، و
الشخص الذي لطخ صفحة حياتها البيضاء بمداد الاغتصاب الأسود، أمر مستحيل أن يقع حتى
و إن عزمت السيدة حليمة على خطبتها له فعلا.لن تعرف فاطمة معنى للسعادة بعد ما
حصل، حتى و لو عوقب ذلك المجرم، كيف لأحد من سكان هذه القرية أن يقبل بالزواج منها
و هي التي فقدت العلامة المميزة لأنوثتها و لصفاء شرفها و حرمتها؟.خرجت من المنزل
و أسندت رأسها إلى جذع أحد الأشجار القريبة من المنزل، و همت بالبكاء، صورة اعتدنا
أن نرى عليها هذه الفتاة التي تتعذب وسط كتمانها للسر الذي سيجعل حياتها جحيما ما
لم تلطف بها الأقدار.
كانت الأسرة قد أتمت للتو تناول طعام العشاء،
و اتجه حسن بعد ذلك ليتمشى بالقرب من البحيرة، بينما بقيت الأم و ابنها خالد و
أخته فاطمة يحملقون في شاشة التلفاز من دون أي اهتمام لما يعرض عليها، فخالد لم
يعجبه ما تبثه المحطة، و السيدة خديجة تعيد تصفح شريط الأحداث التي مرت اليوم في
الدكان، أما فاطمة فلم تخالف عادتها هذه الأيام، غابت شمس السعادة عن أيام حياتها،
مزاجها عكر، تجلس شاردة الذهن، كئيبة الملامح، شاحبة الوجه، إن نظرت في عينيها
تعرف حجم العذاب الذي تعيشه هذه الفتاة التي ذبلت و هي في ريعان شبابها، فانطفأت
الشمعة التي كانت تضيء دربها و تدفعها إلى مواصلة المشوار لتحقيق أحلامها، أحلامها
التي لا تتجاوز طموح كل شابة بأن تعيش في حضن رجل يعرف معنى الحياة و السعادة،
يحترمها و يحبها و يضعها بين عينيه و يعتني بها، وجدت فجأة أن كل ما تمنته تبخر و
أصبح من الخيال، و كل هذا بسبب ولد قبيح المظهر، قبيح السمعة و الخلق.شابة جميلة و
متخلقة تجد نفسها ضحية مراهق مخبول قضى على حياته، و أخذ يقضي على حياة الآخرين.
و ما
هي إلا دقائق حتى خلد جميع أفراد الأسرة إلى النوم، غير أن حسن لم يراود النعاس
بعد جفنيه، و ظل يقظا يسرح بخياله هنا وهناك.ثم، فجأة سمع صوت أنين يصدر عن شقيقته
التي تنام في الركن الآخر من الغرفة، صوت يدل على أنها تبكي بصمت، أخذت تبكي و
تبكي..،كانت صور ذلك الحادث الأليم تعاود مهاجمة مخيلتها، فتواصل تعذيبها و
معاقبتها، و كلام السيدة حليمة عن جمالها و قرب موعد زواجها لا يكف يغيب عن
مسامعها، فلم تتألم كما تألمت اليوم، بينما حسن يراقبها بعينيه اللتين امتلأتا
بالدموع، فتألم هو الآخر لحالها، لكنه لم يجرؤ على الاقتراب منها و تهدئتها، و لم
يستطع أن ينطق بكلمة لمواساتها و سؤالها عن السبب وراء بكاءها، فظل يراقب المشهد
دون أن يصدر أية حركة.
حل صباح اليوم الموالي، نفس النظام يحكم تحركات
أفراد الأسرة، الوالدة و خالد في الدكان، فاطمة رفقة أعمالها المنزلية المعتادة، و
حسن الذي اختار أن يعيد تصفح بعضا من كتبه القديمة، و هو يتحين الفرصة المناسبة
لكي يسأل أخته عن السبب وراء كثرة بكاءها ليلة أمس، فقد أحس بأنه سيضايقها إن لم
يختر الوقت المناسب لعرض الموضوع عليها، خصوصا و أنها بدت مضطربة أكثر هذا الصباح،
و بدا كذلك أنها لم تذق طعم النوم.
انتصف
النهار، ثم، سرعان ما اقترب موعد أذان صلاة العصر، و الساعة تشير إلى الرابعة و
بضع دقائق، توجه حسن على الينبوع ليجلب بعض الماء، و هو في طريقه إلى هناك، تائه
بين الأفكار و الذكريات و الأسئلة التي تداعب مخيلته، أبصر على مقربة من الطريق
بعض الفتيان الذين كانوا يتسامرون و يمضون الوقت في لعب الورق، بل و إن البعض منهم
كانوا يدخنون، و قد كان بينهم ابن الجار، مصطفى، لمحه حسن و هو يمسك بالسيجارة بين
سبابته و وسطاه، ثم استدار مصطفى بدوره فوقع بصره على وجه حسن، و أطلق قهقهة غير
عادية، بينما أكمل حسن طريقه نحو الينبوع دون أن يلتفت مرة أخرى نحوهم.عندما أخبره
مصطفى عن وفاة والده دون أن يكلف نفسه حتى عناء تعزيته و مواساته بلطف، بل أعلمه
بالأمر معبرا عن فرحه بابتسامته القبيحة، ذكرى سيئة لن تُمحى من الأرشيف الأسود
لحسن، دفعته بأن يشعر بالكراهية و البغضاء تجاه هذا الشخص القاتل للمشاعر، و لربما
ازداد كرها له لو علم بما فعله بشقيقته.
عاد
بعد ذلك إلى المنزل محملا ببضع لترات من الماء، و بينما كان يهم بنزع حذاءه، رأى
أن شقيقته فاطمة، التي كانت جالسة تشاهد ما يعرض على شاشة التلفاز، تمسح بسرعة
آثار الدموع البادية على وجهها، فتوجه للجلوس بجانبها، و جثا على ركبتيه، ثم نظر
في عينيها و قال:
_"لماذا
أنت كثيرة البكاء هذه الأيام يا أختي؟ سمعتكِ ليلة أمس تبكين بشدة، و ها أنا ذا
أرى بوضوح آثار الدموع على وجنتيكِ.. ماذا حل بكِ؟"
لم
تستطع فاطمة أن تجيب عن سؤال شقيقها، بل و انهمرت الدموع من عينيها مرة أخرى،
فأمسك حسن بيدها اليمنى بكلتا يديه و ضغط عليها بشدة، ثم واصل خطابه قائلا:
_"هل
هناك شيء ما تخفينه عني يا فاطمة؟ لا تترددي في إخباري بالأمر، لم يكن و لن يكون
بيننا ستار يحجب أحدنا عن الآخر، لطالما كنت أحكي لكِ عن مشاكلي حتى و إن كانت
صغيرة، و هذا كان منذ نعومة أظافري، لا تترددي في مشاركتي كل همومك و إخباري
بشكاياتكِ و مشاكلكِ"
أجابت
فاطمة وهي تغالب الدموع:
_"لقد
سبق و أخبرتك يا أخي..،إنها الحال المزرية التي نعيشها، و المصائب التي توالت
علينا .."
قاطعها
حسن قائلا:
_"لا
يا فاطمة، إنني أحس بأنك تخفين الحقيقة عني، لم أركِ في حياتي تحزنين كل هذه
المدة..، أتوسل إليكِ يا فاطمة أن تخبزيني بما يقلقكِ، أرجوكِ يا أختي، أنا أرى أن
عينيكِ تقولان العكس..لا تكذبي علي يا أختي أرجوكِ"
ازدادت دموع
فاطمة غزارة، و تيقن حسن أنها تخفي عنه أمرا ما، فوضع كفيه على كتفيها و قال بصوت
حنون
_"هيا
يا فاطمة، أخوكِ يستمع إليكِ، و مستعد لمساعدتكِ، و أعدكِ أنه إن كان أمرا سريا
فسوف أبقيه طي الكتمان"
أحست
فاطمة بأنها يجب أن تخبر شقيقها بما جرى، لعلها تجد فيه الشخص الذي سيعينها لتجاوز
محنتها، فقد كان أخوها دائما عند حسن ظنها، فمسحت دموعها و أخذت نفسا عميقا قبل أن
تقول:
_"كان
ذلك عندما ذهبتَ رفقة والدتي إلى المدينة لتتبضعوا من أجل الدكان، خرجت متوجهة إلى
الينبوع من أجل إحضار بعض الماء، و عندما كنت في طريق العودة...،هاجمني..مص..،
هاجمني مصطفى..، مصطفى ابن السيد محمد.."...(يتبع)
إرسال تعليق