رواية "لو كان الفقر رجلا لقتلته"_ عناد فاطمة

لو-كان-الفقر-رجلا-لقتلته-19
عندما بدأ الجو يتلطف بحلول المساء، و بعد يوم كان حارا للغاية، عادت السيدة خديجة من الدكان رفقة خالد مبكرا، كانا يسيران في اتجاه المنزل بخطوات سريعة نوعا ما، و على وجهيهما علامات الفرح و السعادة، و كان خالد الأكثر تحمسا للوصول إلى المنزل، و ذلك من أجل إخبار أخيه حسن بنتيجته الدراسية، حيث كان يحمل في يده ورقتي نتائجه و نتائج أخيه، و ابتسامته البريئة تبشر خيرا، فقد نجح الاثنان، و بحصيلة ممتازة كالعادة.و ما هي إلا لحظات حتى كان حسن يتأمل بيان نتائجه الدراسية بفخر، و بيان نتائجه الدراسية بفخر، و بيان نتائج شقيقه بفخر أكبر، أما فاطمة، فقد كانت هذه أول مرة، و منذ وقت طويل، تُظهر ابتسامتها العذبة بياض أسنانها الناصع، تتفحص هي الأخرى حصيلة أخويها الدراسية و البهجة تغمر قلبها و تزيل سحابة القلق التي احتلته لمدة ليست بالقليلة، لقد كان هذا الخبر يستحق فعلا أن يُعجّل بنقله إلى مسامع باقي أفراد الأسرة، فقد كان أول خبر يضفي على البيت نوعا من البهجة منذ أن توفي السيد إبراهيم، و لعل ما يدل على ذلك، عيني السيدة خديجة اللتان امتلأتا بالدموع فخرا و اعتزازا، و العبارة التالية تتردد في خاطرها:
_"ليت المرحوم كان هنا معنا ليرى بعينيه ماذا يصنع ولداه.."
بعد ذلك، اتجه حسن إلى البحيرة، إنها مناسبة لتخليد ذكرى الوالد، ذهب و جلس في المكان الذي كان مفضلا لدى السيد إبراهيم، و أخذت ذاكرته تسترجع بعض الصور و الذكريات المفرحة و المحزنة.تغلغلت الدموع في عينيه عندما تذكر ما كان ينصحه به أبوه.كان كلما أتيحت له الفرصة يذكر ولديه بأهمية الدراسة و أهمية التفوق، و كان يرشدهما من أجل الوصول إلى المبتغى الذي هو إخراج هذه الأسرة من ظلمات الفقر و أعاصيره التي يتخبط في دواماتها كل أفراد هذه الأسرة، و ها هو اليوم، عازم على أن ينفذ وصية والده، رغم كل الصعوبات و التحديات، يتعهد و يحمل على عاتقه مسؤولية تحقيق أحلامه و أحلام عائلته، يحلم بذلك اليوم الذي سيكون قد وصل فيه بهم إلى بر الأمان، و لكن ما يؤلمه الآن هو عدم تواجد كبير الأسرة معهم، لكي يفرح و يسعد هو الآخر بالنتيجة التي حصل عليها ابنيه، يتخيله يمسك ببيان النتائج و هو يراقب نقط جميع المواد الدراسية التي تفوق فيها ابنه برضا كبير، فرسمت دمعة طريقها على خد حسن، و رفع رأسه ليتأمل السماء الزرقاء، و يقسم بأنه سيحلق عاليا كما يفعل ذلك الطائر هناك، و سوف يبني مجده و مجد عائلته الغالية، قائلا بصوت خافت كله عزيمة و إصرار:
_"لن أنساك يا أبي يوما، و سأعمل على تحقيق ما لم تحققه حتما".
ثم هم بالعودة، فقد حل الظلام، و بدا القمر عاليا يعكس ضوء الشمس ليجعله في أبهى صورة و هو يسقط على سطح مياه البحيرة، في هذه الليلة الغراء التي حملت لمنزل السيدة خديجة خبرا اطمأنت له النفوس و انشرحت الصدور لسماعه، كوب ماء أخمد تلك النيران التي كانت تلتهم حياة هذه الأسرة. و في طريق عودته، كان حسن يتثاقل في مشيته، و هو يحاول تصور حاله و حال عائلته بعد سنوات من الآن، هل سيتمكن من الوصول إلى مبتغاه؟ سؤال صعب، لكن طريقة الإجابة عنه سهلة، فهو متعلق باجتهاده و جده و تعبه، و وقوفه ندا في وجه المشاكل و المصاعب و كذا أولئك الذين يحسدونه و يكرهونه، و في مقدمتهم كما يعتقد حسن، مصطفى ابن الجار، فتلك الكلمات التي قالها إبان وفاة السيد إبراهيم، لن تُمحى من ذاكرته، و لعل حسن سيزداد كرها لهذا الفتى إذا ما علم بما فعله بأخته فاطمة، و لربما نزع حينها رداء الاحترام و اللباقة، و اضطُر لاستعمال أسلوب آخر.وصل حسن إلى البيت حيث وجد الباقين قد أعدوا عشاء غير عادي، و الجد هناك، يشارك الأسرة فرحتها بنتائج الولدين.
في صباح اليوم التالي، كان الجميع قد عاد لنشاطه المعتاد، الأم في الدكان، يتناوب الابنان على مساعدتها، و فاطمة منشغلة بالأعباء المنزلية، و قد عادت غيمة الكرب، التي انقشعت لبعض الوقت و هي تشارك أخويها فرحة نجاحهما، لتحيط بها من جديد، و بدت أكثر حزنا، بدأت تحس بأن لا أحد يهتم بها، والدتها أصبحت لا تبالي بها و هي منشغلة بأحوال الدكان، فقد كانت صديقتها الوحيدة في هذه القرية التي تحكي لها همومها و تواسيها في أوقات كربها و تشاركها أفراحها، لكن، تغيرت الأوضاع، و توجب عليها الاعتناء بنفسها و بأخويها.و ماذا عن مستقبلها؟ أ ستظل تخدم هذا المنزل إلى أن تجد نفسها ضحية إخلاصها لعائلتها؟لكن المشكلة الأهم الآن، هي المصيبة التي حلت بها، و شبح الخوف الذي يلاحقها و يرفض أن يخلي سبيلها، فعلها ذلك المجرم اللئيم و نجا بفعلته، و هذا أكثر ما يؤلمها و يحز في نفسها، تغرق وسط دوامة التفكير هذه باستمرار، ثم تخلص لكونها لن تجد حلا، فتتمتم قائلة:
_"لا حول و لا قوة إلا بالله".
الساعة تجاوزت الرابعة عصرا بقليل، و كان حسن قد عاد للتو من الدكان، توضأ و أدى صلاة العصر، ثم هم بالجلوس بالقرب من أخته فاطمة التي كانت تزيل الشوائب و تفصلها عن حبوب الفاصولياء من أجل إعدادها على طعام العشاء.بدا صامتا لمدة قصيرة، ثم بعدها، و بعد تفكير عميق، استفسر شقيقته قائلا:
_"لاحظت أن حالتكِ تزداد سوءا يوما بعد يوم، أ تظنين أن كل هذا بسبب ذكرى والدي؟"
لم تجب فاطمة عن سؤال أخيها، تجاهلته و لزمت الصمت، لكن حسن أردف و قد رسم ثغره ابتسامة ماكرة:
_"أ تراه الحب؟هل تحبين أحدهم و هو لا يبالي بكِ؟أخبريني بما لديكِ، نحن شقيقان،أوليس كذلك؟"
نظرت فاطمة في وجه أخيها بعيونها الحزينة التي امتلأت بالدموع، و قالت:
_"هذا ما كان ينقصني"
فلم يتردد حسن و قال بصوت أكثر جدية:
_"إذن ماذا بكِ؟توفي والدي منذ مدة، نحن لم ننساه و لن ننساه أبدا، لكن الموت من سنن الله عز و جل، و كذلك بالنسبة للفقر و الشقاء، هذا قدر الله.و لا يتوجب على الإنسان أن يقف مكتوف الأيدي تعيسا حزينا إذا ما كانت حياته مليئة بالمشاكل، بل و بالعكس، عليه أن يطمح ويكافح و يجاهد و يفعل كل ما في وسعه..، ثم إنكِ ما زلت شابة، بل و في عز شبابكِ..لما.."
ثم توقف حسن للحظة و أمسك بيدي شقيقته و استرسل:
_"أنا أحبكِ، و أريد مساعدتكِ، لا أطيق أن أراكِ حزينة هكذا، لقد غابت ابتسامتك عن ناظري لمدة طويلة، حتى البارحة و نحن نحتفل، كنتِ تصنعين ابتسامة مقنعة، و كانت عيناكِ تترجمان رسالة مشفرة لا أستطيع قراءتها، و لا شك أنها تحمل أنباء حزينة..، شيء ما يعكر صفو فرحتكِ، هو وتد غُرز بقوة في قلبكِ..، أخبريني يا فاطمة ما مشكلتكِ؟"
أراد حسن أن يمنح أخته ثقة أكبر في نفسها لكي تخبره بما يدور في رأسها و يسبب الغثيان لنفسيتها، بينما ركزت هي نظرها نحو الأرض، و الدموع تنهمر على خديها، و فكرت أن تقول الحقيقة، أن تفصح عن ما حدث، أرادت أن تجد من يساعدها للإطاحة بذلك المجرم الذي سرق عرضها و أنوثتها، ففتحت فمها لتبدأ الكلام و تعترف لشقيقها بما وقع..،لكنها وجدت صعوبة بالغة في ذلك، تتوقف الكلمات عند حنجرتها و البكاء قد غالبها، و حسن ينظر إليها بعطف ينتظر ما ستقول...،تراجعت بعد ذلك فاطمة و عدلت عن قرارها بعد أن تذكرت تهديد ذلك الوغد، فازدادت غزارة دموعها، ثم استجمعت قواها و قالت:
_"لا أدري ما الذي يصيبني، أحس بضيق في صدري..، و ذلك منذ أن توالت المصائب التي تسقط على رؤوسنا، بدأت الدنيا تسود في عيني، أرمق المستقبل بنظرات متشائمة، لذلك تراني دائمة الحزن و الكرب، صدقني يا حسن..هذا كل ما في الأمر"
ثم ارتمت في حضن شقيقها، و أخذت تعزف سمفونية البكاءأحس حسن بالثقل الملقى على ظهر أخته، و علم مدى معاناتها و حجم الكآبة التي تحيط بها، لكنه لم يصدق مبرراتها تلك، و مع ذلك، اضطر إلى الاكتفاء بما سمعه، فعانق شقيقته بقوة، ولم يتمالك نفسه هو الآخر، فهزمته الدموع، و نطق بصعوبة قائلا:
_"لا أريدكِ يا فاطمة أن تبكي مجددا، انسي الماضي الأليم، و عودي إلى حالتك الطبيعية، أنت وردة في مقتبل العمر..عودي لتتفتحي من جديد، أمامك المستقبل كله، و لا تحزني، و أنا أعدكِ بأن أعوضكِ عن كل ما ضاع وعن كل ما سيضيع..هيا امسحي دموعكِ و ابتسمي، و اجعليني أراكِ سعيدة و لو للحظات"
فمسح دموع أخته و ابتسم ابتسامة عذبة فقابلتها بأخرى أكثر عذوبة و صفاء، عانقا بعضهما البعض من جديد و بقوة أكبر، فكانت فاطمة قد أحست أنذاك ببعض الارتياح يعود ليخفف من وطأة معاناتها .

Share this:

إرسال تعليق

 
Copyright © واويزغتــي | فين ما مشيت . Designed by OddThemes | Distributed By Gooyaabi Templates