... مر يومان بعد ذلك، منزل السيدة خديجة يعرف نفس الروتين اليومي، الأخوان و انشغالهما بالدراسة و التنقل بين المدرسة و البيت ذهابا و إيابا، الأم التي بدأت تكرس وقتها كاملا لتحريك اقتصاد الأسرة الذي لا يبارح مستقره، منشغلة بتسيير الدكان، أصبحت لا تعود إلى بيتها بين أولادها إلا في أوقات متقطعة، فلا يستمتع أبناءها بالجلوس معها إلا بعد إقفالها للدكان و عودتها إلى المنزل بحلول الليل.ماذا عساها تفعل غير ذلك؟ ما باليد حيلة، لا يغمض لها جفن و الناس نائمون، أتعبت نفسها من التفكير لعلها تجد مخرجا آمنا لإنقاذ هذه الأسرة العزيزة على قلبها، و بناء مستقبل أولادها اليتامى.أما فاطمة، فمنذ أن تعرضت للهجوم الوحشي من قبل المراهق الطائش، و هي تحس بالضيق يغزو صدرها، و الألم يجرف كل إحساس في أعماقها و كأن أحدهم يمزق أوتار مشاعرها فلا يترك بداخلها إلا إحساسا بالخوف، الأسى، الضجر و الوحدة، فتظل عينيها تصنعان عصيرا مرا من فاكهة الدموع و هي تقوم بأشغالها المنزلية المعتادة.
عاد حسن و خالد اليوم مبكرا من حصتهما الدراسية
دون سابق إنذار، و ذلك بسبب الإضراب العام الذي يشنه رجال التعليم اليوم.و في طريق
العودة، كان الحديث بين الشقيقين يدور حول يوم العطلة الغير المنتظر الذي حصلا
عليه، قال خالد متسائلا:
_"يا أخي، لماذا تعددت
الإضرابات هذه الأيام؟ و ما الهدف منها؟"
رد حسن قائلا:
_"إنها سياسات نقابات
التعليم التي تسعى وراء تحقيق مطالبها، فتلجئ لهذا النوع من الممارسات"
_"كانوا على الأقل
ليشعرونا بكون اليوم يوم إضراب لكي لا نضطر لقطع هذه المسافة بدون جدوى"
_"إنهم بهذه الإضرابات المتعددة
يساهمون في عدم إتمام مقررات السنة، فنجد مشاكل عدة في السنوات اللاحقة"
...ثم أكملا طريقهما و هما
يتجاذبان أطراف الحديث في جو أخوي مرح إلى أن وجدا نفسيهما أمام عتبة المنزل.
لم تتفاجئ فاطمة لعودة
أخويها، بل إنها لم تعر انتباها لعودتهما، فهي غارقة في همومها، تكنس البيت و هي
تتمنى أن تجد من يكنس المآسي و الآلام التي تملأ قلبها.أقبل عليها خالد سائلا:
_"أ أنت في حاجة إلى
المساعدة يا أختي؟"
_"لا، اذهب و العب فأنا
لست في حاجة للمساعدة"
استغرب خالد لرد فعلها غير
اللبق هذا، و استغرب لمزاجها السيئ الذي أظهرته اليوم، فلم يجد خالد بديلا غير أنه
انصاع لأمر أخته و خرج متجها إلى الدكان، لكي يتفقد أحوال والدته هناك. و كان حسن
ينصت لما دار بين أخته و أخيه من حديث قصير، و على عكس شقيقه، لم يستغرب لرد
فاطمة، فقد لاحظ أن انطباعها تغير كثيرا، و غابت شمس ابتسامتها الحلوة التي كانت
تشرق على وجهها الجميل فتزيده جمالا، و هذا ما كان يطمئن حسن عندما ينظر في محيا
شقيقته، ابتسامتها العذبة تريحه و تجعل غضبه يخمد، لكنها هذه الأيام ليست في أفضل
أحوالها.بعد أن غير ثيابه، اقترب من أخته التي كانت تكنس بوابة المنزل، فوضع يده
على كتفها بهدوء، فاستدارت نحوه، أمعن النظر في عينيها الكئيبتين و وجهها الشاحب،
و قال بنبرة تحمل نوعا من الرقة و العطف:
_"فاطمة..أختي،أنت
تعلمين أنني أعزك، و تعلمين أنني أعرفك جيدا أكثر من معرفة أي أحد آخر بكِ، لاحظت
أنكِ في حال سيئة هذه الأيام، ماذا حل بكِ؟ أخبريني بما يلف قلبكِ علني أخفف
عنكِ؟"
لزمت فاطمة الصمت لوهلة و
ركزت نظرها نحو الأرض ثم قالت:
_"لا شيء يا أخي، لا
تشغل بالك، أشعر بضيق في صدري هذه الأيام و لا أعرف سببه، لا تقلق و حسب"
_"أنا متأكد من أن هناك
ما يشغل بالكِ أكثر من هذا، لا تكذبي علي يا أختي، ليس من عادتنا أن نخفي أي شيء
عن بعضنا البعض..أنا شقيقك، أخبريني إن كنتِ تعانين من مشكلة لأساعدك في حلها"
فتصرخ فاطمة في وجهه قائلة:
_"لست أعاني من شيء،
أسمعتني، ليست لدي أية مشكلة"
فتدير ظهرها له، و تعود لإتمام ما بدأته، غير أن
حسن لم يستسلم لعنادها، فأمسك هذه المرة بيدها اليمنى، و قال بنبرة أكثر رقة:
_"لست أحاول سوى
مساعدتكِ يا أختي، و أنا أرى بوضوح علامات القلق في عينيكِ"
فتنهمر الدموع من عينيها، و
تترك المكنسة تسقط أرضا، عانقها حسن و ضمها إلى صدره بقوة ثم قبّل جبينها منتظرا
ردها قبل أن تردف قائلة:
_"إنها أحوال أسرتنا
التي تقلقني، و أحزان وفاة أبي التي عاودتني يا أخي،ليس إلا"
أصرت على أن تخفي ما وقع لها،
كانت خائفة من أن يكون رد فعل حسن سلبيا، و أحست كذلك بأنها يجب أن لا تثقل كاهل
أسرتها بمشكلة أخرى، فاختارت أن تتحمل العبء لوحدها، رغم العذاب الذي سيلحقها و
رغم الألم الذي ستزداد وطأته يوما بعد يوم، لكنها علمت اليوم قدر محبة أخيها لها و
أحست و هي تعانقه بأن جزءا من همومها بدأ ينجلي و ببعض الأمل يتسلل إلى أعماقها.
مرت الأيام و حل فصل الصيف
بحرارته الحارقة، و حلت معه العطلة السنوية، يلقبه حسن بفصل الملل، لأن أطفال هذه
القرية و شبابها، و على قلتهم، لا يجدون طوب حجر يملئون به الفراغ الذي يحيط بهم
كلما أقبلت عطلة آخر السنة سوى أنهم يمضون وقتهم في السباحة في مياه البحيرة غير
واعين بالمخاطر التي تحدق بهم من أمراض تنتج عن أشعة الشمس الحارقة و الجراثيم
التي تملأ المياه و كدى احتمالات الغرق، فكثيرة هي الفرص التي انتهزتها مياهها
الراكدة لتبلع أحد هؤلاء المساكين، رغم إتقان معظمهم لأصول السباحة، و كما يحلوا
لسكان القرية تسميتها "بحيرة الأربع"، لأنها اعتادت كل سنة أن تحفر في
أعماقها قبورا لأربعة أشخاص على الأقل، فجمالها الساحر هذا يخفي وراءه شراسة غير
عادية في مواجهة كل من أراد الاستجمام و الاستمتاع بالسباحة في مياهها.
لكنه صيف خرج عن المألوف في
مذكرة أسرة السيدة خديجة، فهذا أول صيف ستقضيه هذه الأسرة دون الأب، الذي توفي
فجأة، و ترك زوجته و أبناءه يواجهون العقبات التي تلقيها أمامهم أيادي القدر.و كان
كلما اشتد القيظ هذه الأيام كلما ازدادت الكآبة في وجه فاطمة، و كلما أحس حسن
بتفاقم وضعيتها النفسية التي لم يعرف لها دواء خصوصا و أنها تصر على أن تخفي سبب
حزنها. كان يسمعها كل ليلة و هي تصدر أنين بكاء و انسياب دموع و هي على فراشها،
فكان شقيقها يتألم كلما تألمت، و يزداد حيرة على حيرته كلما رآها على هذه الحال، و
كل هذا يقع من وراء ظهر السيدة خديجة، التي انشغلت بتسيير الدكان و غرقت في بحر
مشاكله..(يتبع).
إرسال تعليق