... إنها الرابعة عصرا، وجدت فاطمة مكانا هادئا أمام عتبة المنزل، تعيد هناك التفكير فيما حدث، و صور الحادث لا تكف عن تعذيبها، لا تجد سوى البكاء مواسيا، بينما شقيقها خالد جالس بالقرب منها ينتظر عودة والدته و شقيقه، لم يلحظ الحزن البادي على محيا أخته، استقبل قصتها التي روتها حول ما حدث لها ببراءة، فظن أنه حادث بسيط كان مقدرا أن تلعب فاطمة دور الضحية فيه، فلا يشغل باله الآن إلا العودة المنتظرة لوالدته و أخيه.و كانت العديد من الأسئلة تجول في ذهن فاطمة، تتساءل عن ما سيحمله المستقبل من جديد و إلى ماذا سيؤول وضعها، تُرى هل شاهد أحدهم ما حدث؟هل فعلا سينفذ الوغد انتقامه إذا ما أخبرت أحدا بما وقع؟تلوم نفسها تارة، و تسقط اللوم عنها تارة أخرى،لكن كيف ذلك و الواقعة ليس لوقعتها مثيل.لكنها قررت أن تخفي ما حدث و أن لا تخبر أحدا، لأنها خائفة..، خائفة من انتقام مصطفى، فهذا النذل الحقير لا معنى لحياته، و هو حتما سينتقم.و في خضم سردها لهذه الأفكار، و على الهامش، كان هنالك صوت ينبعث من أعماقها يُسمع له صدى في أذنيها، صوت قوي يقول لها:لا يا فاطمة، لا تستسلمي لهذا المجرم، لا تدعيه يفلت بفعلته،لا تدعي شرفك يلطخ بدماء العار، لا تجعليه يبدو كالبطل و أنت كالخاسرة، لا تتحملي العواقب لوحدك.لكن فاطمة كانت تدفن هذا الصوت و تُسكته لأنه يزيد من عذابها و معاناتها التي ستستمر ما دامت مصرة على كتمان سرها.
فجأة، ظهر مصطفى، و على
ثغره الكريه ابتسامة ثقة، و كأنه يؤكد على أنه سينفذ انتقامه إذا ما اضطر لذلك، لم تتحمل فاطمة رؤية وجهه الخبيث،
فنهضت و أسرعت في الدخول إلى البيت، و ارتمت على الحصير و بدأت تنتحب، بينما خالد
يستغرب لما يقع، فنظر في وجه مصطفى الذي ألقى عليه التحية مبتسما و قال:
_"كيف حالك يا
خالد؟"
رد خالد مبتسما بدوره:
_"بخير و الحمد لله".
ثم أكمل مصطفى طريقه نحو
منزلهم بالجوار، و من شدة استغراب خالد، دخل ليستفسر أخته، فوجدها مستلقية تبكي،
فربت على كتفها و سأل قائلا:
_"لماذا تبكين؟ و لماذا
دخلت مسرعة هكذا عندما رأيتِ مصطفى؟ ليس من عادتكِ أن تتصرفي هكذا"
مسحت فاطمة دموعها، و قامت
فعانقت شقيقها قائلة:
_"لقد راودتني ذكريات
أبي فقط يا عزيزي"
اقترب موعد الغروب، و اقترب
معه موعد عودة السيدة خديجة و ابنها حسن، و خالد ينتظر على أحر من الجمر عودتهما،
بينما كانت فاطمة غارقة في تفكيرها و أساها، كان واضحا على محياها الحزن الشديد،
تجلس بالقرب من أخيها الذي ما زال يقوم بواجباته الدراسية، و من حين لآخر يرفع
رأسه ليلقي نظرة إلى أبعد نقطة يصل إليها بصره، باحثا عن امرأة و ولد يسيران في
اتجاه المنزل.عندما سئم الانتظار، سأل شقيقته:
_"لماذا لم يأتيا بعد يا
أختي؟"
ترد فاطمة بعد أن جففت عينيها
من الدموع:
_"لا تقلق سوف يصلان
قريبا"
لقد كان جوا موحشا بالنسبة
لفاطمة، كما لم يكن موحشا من قبل، تزداد المحن التي تواجهها، و تقسو عواصف القدر
في طرحها أرضا، و تزداد الدنيا سوادا في عينيها اللتان تنزفان من شدة الطعنات
النفسية التي تعرضت لها.و ما هي إلا دقائق حتى ظهرت الأم و ولدها محملين بعلب جمة
و أكياس تبدو ثقيلة، يسيران ببطء في طريقهما مقبلين على المنزل، و ما إن لمحهما
خالد حتى ترك ما بين يديه من كتب و كراسات، و أسرع يستقبلهما جاريا في اتجاههما،
دنا منهما و عانق والدته بقوة، وبالمثل فعل مع أخيه، ثم ساعدهما في حمل البضائع، و
وقفت فاطمة كذلك لاستقبالهما، و قد رسمت شفتها ابتسامة لم تخفي ملامح الحزن التي
طغت على وجهها، عانقت بدورها أمها، هذه الأخيرة التي لاحظت الجرح على رقبة ابنتها
و سالت بنبرة قلقة:
_"ما سبب هذا الجرح على
رقبتك؟"
فلم تتردد فاطمة في الإجابة
عن السؤال باكية:
_"هاجمتني بعض الكلاب
الشاردة و أنا في طريق عودتي من المنبع هذا الصباح..كادت تقتلني"
_"ماذا؟هاجمتكِ كلاب
شاردة؟ ألم تصابي بأذى؟"تقول الأم بهلع.
فتجيب فاطمة نافية، ثم سكتت و
أخذت تمسح دموعها، بينما تقدم حسن و عانقها، هو الذي لاحظ أن شقيقته ترتعش، سألها
بدوره:
_"لماذا ترتعشين هكذا؟هل
من خطب ما؟"
_"لا.. أنا بخير"
_"الحمد لله أنها لم تصبكِ
بأذى كبير كما قالت أمي"
و هرع الجميع إلى داخل
المنزل، و علامات الشك تحيط بحسن الذي لم يستسغ ما حصل لفاطمة.
بعد أن جلس أفراد الأسرة، أخذ خالد يطرح
الأسئلة على والدته:
_"كيف كانت زيارتكما
للمدينة يا أمي؟"
_"الحمد لله، لقد وفقنا
الله في مهمتنا، لم تواجهنا صعوبات كبيرة كما توقعنا"
_"كيف تبدو المدينة يا
أمي؟أهي جميلة حقا؟"
_"ليس بالقدر الكافي
لتكون أجمل من قريتنا، فأينما ذهبت لا تجد سوى دخان السيارات و الشاحنات التي تملأ
الشوارع ضجيجا، زد على ذلك النفايات التي تنال من جنبات الطرقات، تجدها هنا، و
تجدها هناك، تجدها أينما ذهبت".
_"أود أرى ذلك يا
أمي".
_"حسنا، في المرة
المقبلة سترافقني أنت بدلا من حسن، أ أنت راض الآن؟"
فطأطأ خالد برأسه موافقا و مبتسما كعادته، بينما كان
حسن يتأمل وجه أخته الشاحب، لم تكن تشاركهم الحديث،حاضرة الجسد، غائبة الفكر، ليس
من عادتها أن تسرح بخيالها هكذا، تُرى هل تسير معها الأمور بخير؟ هذا هو السؤال
الذي كان يشغل بال حسن و هو جالس متعب يحتسي الشاي و يراقب تصرفاتها عن كثب،
فيشاهد القلق باديا على محياها، بل الأكثر من ذلك، عينيها، اللتين لبستا اللون
الأحمر،تشيران إلى الإرهاق الذي أصابها من كثرة البكاء، فيتسلل الشك إلى أعماقه، و
تتقاطر الأسئلة على ذهنه، فبدا له أن الجرح الذي على رقبتها يخفي وراءه حدثا
مريبا...(يتبع)
إرسال تعليق