رواية "لو كان الفقر رجلا لقتلته"_ الجريمة النكراء 1


لو-كان-الفقر-رجلا-لقتلته-15
...وصلا إلى هناك و كانت الحافلة الوحيدة تنتظر، و في وقت وجيز بدأت تتأهب للانطلاق، لقد امتلأت بالركاب، بل و أصبحت مزدحمة بهم، على وجوههم نظرات قلق و خوف و اضطراب، تجعل الناظر إليهم يلمس معاناتهم، فأغلبهم ليسوا متوجهين إلى المدينة بغرض الاستجمام، و إنما تقودهم إليها الحاجة و الرغبة في إتمام مهمة أو قضاء مصلحة.ثم انطلقت الحافلة على الطريق الترابي الذي يربط هذه القرية بالقرى المجاورة و بالمدينة، و يعتبر طريقا وعرا بمسالكه و منعطفاته الصعبة بالإضافة إلى ضيقه و امتلائه بالحفر التي لا تكاد تنتهي، فترى أجسام الركاب تهتز على طول الطريق، و الحافلة التي انبعثت فيها روائح القيء لا تكاد تطيق الجلوس داخلها.
 ..طُرق باب منزل السيدة خديجة، و هاهي فاطمة ترد:
_"من الطارق؟"
_"إنه أنا يا ابنتي.. أنا جدك"
فتسرع فاطمة و تفتح الباب قائلة:
_"أهلا بك يا جدي، تفضل، ادخل"
_"كيف الحال يا ابنتي؟"
_"الحمد لله و أنت يا جدي؟ما أخبارك؟"
_"الحمد لله و الشكر لله على كل الأحوال، أمك أليست هنا؟رأيت الدكان مقفلا؟"
_"إنها غير موجودة يا جدي، لقد توجهت رفقة حسن إلى المدينة لجلب البضاعة للدكان"
_"بهذه السرعة؟، لم أكن أظن أنها ستذهب اليوم و إلا فكنت لأرافقها بدلا من حسن، فهي لم تخبرني بالأمر..إنها متسرعة دوما كعادتها"
_"لا عليك يا جدي، أنت تعرف أنها لا تود إزعاجك و إتعابك معها"
_"إذا لم أقف بجانبها الآن و هي في محنة، فمتى سأفعل ذلك؟"
_"لقد فعلت ما عليك فعله..لا تقلق بشأنها يا جدي إنها تعرف ما تفعل"
_"سنرى ذلك، نصحتها بأن تترك الدكان و تبيعه لكنها رفضت، و العواقب ستتحملها هي..المهم،متى سيعودان؟"
_"قالت والدتي أنهما سيعودان في المساء.تفضل بالجلوس يا جدي بينما أعد لك الشاي"
_"لا لا يا ابنتي، أتيت فقط لأطمئن عليكم، أين خالد؟أليس اليوم يوم عطلة؟"
_"لقد خرج قبل قليل ليلعب رفقة أصحابه"
_"حسنا، ألن تحتاجوا شيئا؟"
_"لا شكرا يا جدي، لا نحتاج شيئا، أطال الله في عمرك"
_"إذن، إلى اللقاء يا ابنتي و اعتني بخالد و بنفسك"
_"لا حاجة لأن توصي الإنسان بأن يعتني بعينيه..إلى اللقاء يا جدي، رافقتك السلامة"
فيخرج السيد عبد الله و يترك منزل ابنته متجها إلى الحقل، و في خاطره تجول عبارات اللوم و العتاب اتجاه السيد ة خديجة لأنها لم تخبره بأنها ستتوجه إلى المدينة اليوم، فهو عارف بالمدينة و بمخاطرها، و عالم بصعوبة المهمة على ابنته خصوصا و أنها لم تلج المدرسة يوما، و لا تجربة لها في ميدان التجارة و هذه أول مرة تتجه فيها نحو المدينة لجلب السلع إلى الدكان، و حتى و إن رافقها حسن، فهو مثلها لن يقدر على إفادتها كثيرا بحكم صغره.فتمتم بحسرة:
_"كان الله في عونها و عون أولادها"
    عند الظهيرة، بينما الشمس تتفنن في إرسال أشعتها الذهبية و حرارتها التي بدأت تلج سوق الارتفاع و السخونة، نادت فاطمة أخاها الصغير قائلة:
_"خالد، أقبل عليّ أنا هنا بالمطبخ"
فنهض خالد من مكانه أمام المنزل، الذي لم يبارحه منذ ساعة يراجع دروسه، مستجيبا لنداء أخته، يرسل خطواته مسرعا، ثم يقف بباب المطبخ مستفسرا:
_"ماذا هناك يا أختي؟هل من خطب ما؟"
_"نعم،سوف أذهب إلى المنبع لأحضر ماء يكفينا لبقية اليوم، لا تبارح مكانك، سأعود بسرعة لكي نتناول طعام الغذاء، ألا تحس بالجوع؟"
_"نعم، عصافير بطني تزقزق، لكن دعيني أرافقك إلى هناك"
_"لا حاجة لذلك، ابق أنت هنا و أكمل واجباتك الدراسية و اعتن بنفسك إلى أن أعود اتفقنا؟"
_"لا مشكلة" يرد خالد مبتسما.
فتبتسم فاطمة هي الأخرى و تضمه إلى صدرها ثم تطبع قبلة على خده، إنها تحس بالمسؤولية اتجاهه في غياب الأم، لكن ما يطمئنها هو كونه ولدا نجيبا رغم صغر سنه.فتحمل آنية فخارية على كتفها و تتقدم نحو المخرج قائلة:
_"سوف أعود بسرعة، لا بد أن الجوع فعل بك فعلته"
فتدير رأسها نحو الخلف لتجد الطفل ينظر إليها بعينين مملوءتين حبا و ودا، و قد رسمت شفتيه ابتسامة عذبة، يرد بها على كلام أخته بالموافقة، فتكمل فاطمة السير و قلبها مسرور لكونها شقيقة لهذا الطفل اللطيف و المهذب من جهة، و من جهة أخرى فقد كانت هذه أول مرة ترى فيها الابتسامة تعود من جديد لتزخرف وجه أخيها منذ أن توفي والدها، و لشدة تأثرها مسحت بيدها دمعة تدفقت و هي لا تعلم أ هي بطعم الحزن أم بطعم الفرح.
    سارت في الطريق إلى جانب البحيرة ثم عبرت قنطرة صغيرة أقامها سكان القرية كانت تعلو المجرى المائي، ثم اندفعت بعد ذلك وسط الأشجار و النباتات الخضراء في جو تملئه زقزقة العصافير و خرير المياه و حفيف الأشجار بهجة و نشوة، تتبع الخطوة الأخرى و ذهنها شارد لا تعير أيما انتباه لما حولها من جمال و إبداع للخالق يعكسه اللون الأخضر الذي يحيط بالمكان و وفرة الظلال التي تخفي بقدرتها حرارة الشمس و تجعل الجسم يذب حركة و نشاطا، زد على ذلك منظر الجبال الشامخة التي تكسو قممها أثواب بيضاء من الثلوج الناصعة، إنها  لوحة أبدع البارئ في رسمها و تشكيلها بألوان لا مثيل لها على ورق الطبيعة الخلابة، فيا حسرة من سرقت منه نعمة النظر.وصلت إلى المنبع الذي يخلو من أحد، تتدفق منه مياه رقراقة تجري في مجاري تحملها إلى البحيرة حيث تصب.ملأت الآنية الفخارية و حملتها فوق كتفها بمشقة هذه المرة، ثم سارت بخطوات متثاقلة نتيجة الوزن الزائد للماء، و عادت أدراجها و الأفكار تثقل هي الأخرى دماغها و تلقي بستارة سوداء أمام عينيها و تمنعها من التمتع بما حولها من مناظر، إنها تشغل بالها بأحوال الأسرة و مستقبلها و هي لم تضمد بعد جراح فقدان إنسان من بين الأعزاء على قلبها.تحاول الإسراع ما في إمكانها لتعود إلى البيت، مقتفية آثار الأقدام التي طبعتها على الأرض عندما مرت من هناك عندما كانت آتية، و فيما هي كذلك تتقدم بأسرع ما يمكن، أحست فجأة بيد تجرها و تسحبها بقوة إلى جانب الطريق بين الأشجار، و يد أخرى تطبق على فمها، و لشدة هلعها أسقطت الآنية الطينية فتكسرت و اندثرت القطع الفخارية المزخرفة هنا و هناك و قطرات الماء تتطاير و تتسابق للوصول إلى أبعد حد من مكان تكسر الوعاء على جنبات المسار الترابي، سُحبت الفتاة بعنف و هي لا تدري من هو ذلك الشخص الذي استمر في جرها واضعا إحدى يديه على فمها و هي تطلق صرخات لا تكاد تصل إلى طبلة أذنيها إلا في شكل أنين لم و لن يجدي نفعا.أبعدها ذلك الشخص مسافة مطمئنة له عن جانب الطريق وسط الأشجار لكي لا يسمعها أحد، وقتها أسندها إلى شجرة قريبة متدلية باسقة الظلال، ثم جعلها تستدير و تقابل وجهه، و بنظرة خوف و هلع ممزوجة بالتفاجئ، أدركت أنه ابن جارها: إنه مصطفى، الولد الطائش في نظرها، لكنه رغم ذلك كان يبدي لها احتراما فائقا كلما مر بجانبها، إذ يلقي عليها التحية بلطف و لا يجرؤ على النظر في وجهها. بعد ما قام به، أخرج سكينا حادا بدا لفاطمة أكبر من طوله الحقيقي من شدة خوفها، و وضع طرفه الحاد على عنقها ثم أزال كفه محررا فمها، و أخذ يتأمل وجهها بإعجاب، بينما هي ترتعش و تراقب حركات السكين التي كان يلوح بها مهددا، فتمتمت بصعوبة:
_"ماذا تريد يا..مص..طفى؟ أبعد..أبعد السك..السكين عني"
صمت الولد الطائش لبرهة، ثم قال:
_"أريدكِ أنتِ، أريد أن أروي عطشي منكِ، لطالما مررت بجانبي و تأملتكِ بشغف، فليست هنالك فتاة بمثل جمالك في القرية كلها"...(يتبع)

Share this:

إرسال تعليق

 
Copyright © واويزغتــي | فين ما مشيت . Designed by OddThemes | Distributed By Gooyaabi Templates