رواية "لو كان الفقر رجلا لقتلته"_ بداية المشوار


لو-كان-الفقر-رجلا-لقتلته-14
اتجهت مباشرة إلى الدكان، و أكملت عملية التنظيف و الترتيب التي بدأتها صباحا، ثم جلست تنتظر الزبائن الذين كانوا يسألون فلا يجدون، فكثيرة هي السلع الناقصة. بعد أن ارتخت الظلال، و سلكت الشمس مسلكها الذي يؤدي إلى ما وراء الجبال، حضر السيد عبد الله إلى الدكان، في زيارة كانت متوقعة من السيدة خديجة. رحبت به و دعته ليجلس ثم جلست هي الأخرى على صندوق خشبي قديم، أحنت رأسها و أطبقت شفتيها ممتنعة عن الكلام منتظرة المبادرة من والدها الذي قال:
_"هذا الدكان صغير جدا، كما أنه رث و قديم أيضا"
_"الحمد لله على كل حال، فهنالك من يتمنى أن يملك مثله ولا يستطع"
_"أنتِ تستطيعين أن تملكي أكثر"
_"ماذا تقصد يا أبي؟"
_"أقصد أنه يمكنك بيع الدكان و سأعينك لشراء حقل تعتمدين عليه من أجل كسب الرزق"
_"عدت ثانية إلى هذا الموضوع يا أبي؟ هذه الفكرة لا تعجبني"
_"أتظنين أن ستربحين من عملك في هذا الدكان؟"
_"نعم يا أبي، بشرط العمل الجاد"
_"لكنني أخاف عليكِ يا ابنتي، فهذه الأعمال من اختصاص الرجال"
_"ما من مستحيل يا أبي، سأعمل جاهدة لتحقيق ما حققه الرجال"
_"أرجو أن تبقي متفائلة هكذا"
_"رؤية نور في العتمة و الإيمان به أفضل من رؤيته و عدم تصديقه..،أعني أن نبقى متفائلين رغم كل المصاعب، فالتشاؤم يطيح من معنويات الشخص و يعيقه"
_"حسنا..."
ثم يضع الأب يده في جيب جلبابه و يُخرج منه بضع ورقات نقدية و يسترسل:
_"خذي هذه، إنها بعض النقود يمكنكي أن تحلي بها أزمتكِ إلى حين أن تُيَسّر الأمور"
تمسك السيدة خديجة بالنقود و تتأملها غير مصدقة، إنها لمفاجأة سارة حقا، نهضت بسرعة و قبلت يد و رأس والدها، و شكل فمها ابتسامة زخرفت وجهها، هي الأولى لها منذ أن توفي زوجها.
انقضى النهار و حل الليل، و كانت السيدة خديجة في طريقها إلى بيتها، و قد أتعبها التفكير في بؤس حال الدكان، عازمة على إنعاشه من جديد بتزويده بسلع أخرى غدا، و هي تتحسس المال الذي اقترضته من والدها، فتشعر برغبة كبيرة في حمل البشرى لأولادها بما في جعبتها.
موعد العشاء في المنزل، كالعادة خبز وحساء على القائمة، و أفراد الأسرة مجتمعون حول المائدة و التلفاز ينقذ المنزل من دوامة الصمت الرهيب، فقررت الوالدة الآن أن تسعد أولادها بالخبر، فقالت بصوت تغمره السعادة:
_"لقد وجدت غايتي، و اقترضت مبلغا من المال من والدي، يكفي لتغطية بعض حاجيات الدكان"
ردت فاطمة مبتسمة:
_"رائع يا أمي، أنا سعيدة من أجلكِ"
بينما بدت على وجهي الولدين علامات السرور، و أخذ الكل يتأمل الخبر، و الجميع يرى في الأمر نجاحا أوليا حققته الأم، من شأنه أن يشجعها على التقدم، فدبت نشوة الارتياح في أجسادهم، و أخذ حسن يطرح الأسئلة على والدته حول ما ينقص الدكان، و حول المبلغ الذي بحوزتها و موعد ذهابها لإحضار السلع، فأجابت عن أحد الأسئلة قائلة:
_"سأذهب معكَ غدا إلى المدينة، فغدا يوم عطلة، و سنجلب ما نحن بحاجة إليه من سلع للدكان..هل أنت موافق؟"
_"نعم يا أمي، و بكل سرور، فلا بد لي من أن أكون معكِ، خصوصا و أنها المرة الأولى التي ستبتاعين فيها حاجيات الدكان"
_"فلنسأل الله أن يوفقنا و يكون بجانبنا"تقول الأم و قد أحست بحجم المسؤولية على كاهلها، و شعرت بصعوبة المهمة، في حين امتلأت عيني فاطمة بالدموع سائلة الله أن يصلح حال هذه الأسرة الضعيفة.
بعدها عاد الجميع لشرب الحساء، و لوهلة بدا أن خالد لم يعد يشعر برغبة في تناول الطعام، فزيادة على الوجبة التي لا تغري بالأكل، هناك الأحداث الكئيبة التي تمر منها الأسرة، و المشاكل التي تلتف حولها، فماذا عساها تكون نفسية طفل صغير و هو وسط هذه الدوامة، فقالت له السيدة خديجة بعطف:
_"لماذا لا تتناول طعامك يا بني؟ماذا هناك؟"
_"أريد أبي يا أمي، أشتاق إليه، ليته لم يمت، ليته كان معنا الآن"
قالها و قد أذرفت عيناه دمعتين سالتا و هما تتلألئان فوق خديه الحمراوين.
أمسكت به والدته و جعلته يدنو منها و قالت معانقة إياه:
_"لا تقلق يا ولدي، كن على يقين دائم بأنني ما دمت حية أرزق فلن أتخلى عنكم، و سنواجه معا مصاعب الحياة و سنتفوق عليها، لو كان والدك هنا لما أرادك أن تبكي هكذا"
_"لكنني أفتقده يا أمي، إنني أفتقده"
ضمت الأم ولدها إلى صدرها، و ضغطت عليه بقوة فأصدر أنينا وقع على مسامعها كصوت خنجر جرح أوصالها، و جعل حسن و فاطمة يسدلان رأسيهما، فاستنزفت الدموع عيني الوالدة التي وضعت خدها الأيمن على رأس ابنها الذي بلل بدوره صدرها من شدة البكاء، و ما هي إلا ثوان حتى اقتربت فاطمة منهما و أمسكت يد أخيها و أجهشت هي الأخرى بالبكاء بينما ترك حسن صحن الحساء جانبا، و قال بصوت منخفض و الأسى يملأ قلبه:
_"أحس أن أبي يبكي مثلنا الآن"
    في اليوم الموالي، و في الصباح الباكر، أيقظت السيدة خديجة ابنها حسن، و أخذت تعد ما ستحتاجه أثناء تواجدهما في المدينة، لتضمن نجاح بداية حقبة جديدة من حقب حياتها و هي تدخل مجال التجارة من أضيق أبوابه. بعد ذلك انطلق الاثنان بإحساس ممزوج بالقلق و الخوف و التفاؤل و الغبطة، متجهين إلى موقف الحافلات، الذي لا تكاد تجد فيه سوى واحدة أو اثنتين على الأكثر، تنتظر أن تمتلئ بالذين راودتهم أنفسهم بتخطي حدود القرية إلى العالم الآخر، عالم الرخاء و الرفاهية، و يسر العيش و التقدم. المدينة بالنسبة للبعض من سكان هذه القرية رياض من رياض الجنة، و حلم يسعون إلى إدراكه، غير أن البعض الآخر يعتبرونها مكانا يحفل بالمخاطر و المفاجآت غير السارة، يتوجب على من يدخله، في نظرهم، توخي الحذر، بينما موقف السيدة خديجة بين هؤلاء موقف وسطية، فهي تؤمن بكون الحضر ملاذا يمكن أن يلتجئ إليه كل من يبحث عن تحسين أحواله المعيشية، شرط أن يكون عارفا بالمخاطر التي قد تواجهه، و قد بنت رأيها هذا استنادا على ما كان يرويه لها المرحوم زوجها من حكايات واقعية كان هو أحد أبطالها، أو أخرى يرويها له أحد معارفه، و هي في الغالب تحمل في جل مواضيعها المشاكل و الأخطار التي يواجهها القروي في المدينة، و بعض المواقف التي قد تصادفه، كما تحكي عن بعض العجائب و الطرائف التي تحدث هناك، فأبسط الأحداث التي تعتبر عادية عند سكان المدن  و فصلا من فصولها السنوية، قد تبدو خارقة للعادة في نظر هؤلاء الغرباء. في الطريق، تمتمت الأم قائلة:
_"هذه ثاني زيارة لي أطل من خلالها على المدينة..لكنها في أجواء مخالفة تماما"
كانت زيارتها الأولى لها كما قالت تماما:في أجواء مخالفة، إذ أنها أنذاك كانت برفقة زوجها، فبعد زواجهما مباشرة قرر السيد إبراهيم مرافقة زوجته في إلى المدينة لقضاء وقت ممتع فيها و التجول بين طرقاتها و أزقتها و شوارعها، يجوبون أروقتها متأملين جمالها بأعين ملئها اللهفة و العجب و في أجواء مفعمة بالحب و الفرح بين زوجين ما زالا في ريع شبابهما و في بداية مسيرتهما معا في مواجهة محن الحياة التي كانت تبدو أمام أعينهما مزهرة و بلون الورود، غير أنها اليوم رفقة ابنها حسن يتجهان إليها و قلبيهما لا يتسعان بما فيه الكفاية لتحمل مشكل آخر، لكن مع ذلك و في أعماق أعماقهما يوجد بصيص من الأمل يدفعهما لتصور المستقبل في حال أفضل...(يتبع)

Share this:

إرسال تعليق

 
Copyright © واويزغتــي | فين ما مشيت . Designed by OddThemes | Distributed By Gooyaabi Templates