وصل حسن إلى البيت، و ما إن فتح الباب حتى أسرع كل من خالد و فاطمة في استقباله واقفين ينتظران ظهور والدتهما خلفه، لكن خيبة أملهم كانت كبيرة عندما أغلق حسن الباب دون أن ينطق بأية كلمة، فسألت فاطمة:
_"أين هي أمي؟"
رد حسن و الحسرة تغلب ملامح
وجهه:
_" لقد رفضت"
أطلق خالد العنان لدموعه
قائلا:
_"لماذا لا تريدين
العودة يا أمي؟ لماذا؟"
أمسكته فاطمة و عانقته و طبعت
قبلة على جبينه ثم قالت محاولة تهدئته:
_"ستعود أمي..ستعود
قريبا فلا تبكي"
لمح حسن والده الذي ما زال
نائما، فتذكر كلام جده عن الكسل، و تيقن من صحته، فعزم هو كذلك على مناقشة أبيه في الموضوع.
لحظات هدأ فيها كل من في البيت، الأب لم
يبارح مكانه، فاطمة منشغلة بأعبائها المنزلية و خالد جالس في المطبخ يراقب
تحركاتها، أما حسن فقد تمدد فوق الحصير في بهو المنزل و أسند رأسه إلى مخدة، و أخذ يعيد قراءة بعض الكتب و المجلات القليلة لديه والتي كان يحضرها له
أبوه كلما توجه إلى المدينة، أخذ يقرأها محاولا التخفيف عن ألمه، لكن صورة أمه لا
تفارق ذهنه.حدث نفسه:
_"فارقتنا أمنا ليوم
واحد، فألم بنا كل هذا الحزن، فما حال أولئك الذين فقدوا أمهاتهم إلى الأبد، فرقت
بينهم الموت، لعل أفئدة هؤلاء المساكين تشق كل يوم و لعل الحزن صديقهم
الوفي..."
يتخيل الحالة النفسية التي
يعيشها هؤلاء، و يشكر الله أن والديه لم يفارقا الحياة:
_" الذي حصل بينهما ليس
سوى خلاف بسيط، سرعان ما سيُحل و يعود كل شيء إلى حالته الطبيعية...،لكن..، الطلاق؟..هل
من الممكن أن..؟..لا،لا يمكن،لن تسوء الأمور إلى هذا الحد، أمي لن تستطيع..، أما
أبي فأنا متأكد من أنه يكره حتى التفكير في ذلك..."
أفكار تشوب في ذهن حسن، مخاوف
تدور في رأسه، تعليلات تريحه و أخرى تقلقه.
استمر الحال على ما هو عليه،
إلى أن حان وقت الغداء، فأراد حسن أن يوقظ أباه، دنا منه و ناداه بلطف:
_"أبي..انهض يا أبي إنه
وقت الغداء"
لم يكن الأب نائما كما ظن
حسن، كان مستيقظا يفكر في حل لورطته.فأجاب:
_"حسنا، أنا آت"
طوق الإخوة جوانب المائدة، التي تحمل طبقا من
الفاصولياء، تاركين مكانا لوالدهم.خرج من الغرفة فتبعته نظرات الأولاد، كأنهم يرونه
لأول مرة، اغتسل ثم أخذ مكانه مع الأولاد، و شرع يأكل، ثم تفضل الأبناء من بعده،
يزدردون اللقم دون أن ينطقوا بكلمة إلى أن اختفت حبات الفاصولياء من على الصحن، رغم أن
الجوع ما زال ينتاب حسن وخالد، اكتفى هذا الأخير بتناوله لقطعة خبز لعلها تطفئ لهيب
ذلك الجوع، أما الآخر فلن يجد غير الصبر معينا حتى موعد الوجبة القادمة.بعد أن فرغ
السيد إبراهيم من تناول الطعام، اتجه نحو المطبخ لإعداد الشاي كما يفعل دوما، ثم
خرج بعد ذلك و جلس أمام باب المنزل يحتسي الشاي و يدخن.بعد لحظات، قدم حسن و أخذ
مكانا بجانبه، و سأله:
_"أين كنت يا أبي طيلة
يوم أمس؟انتظرناك طويلا"
_"كنت عند أحد معارفي،
دعاني لتناول طعام الغداء في بيته"يجيب الأب بعد أن نفث دخان السيجارة.صمت
حسن بعد ذلك، يتأهب لطرح سؤال آخر بشأن الخصومة التي نشبت بين الوالدين، استجمع
قواه، و قرر فتح الموضوع بجدية، فسأل من جديد:
_"لماذا تخاصمت مع أمي؟
ما الذي جرى؟"
رد السيد إبراهيم محاولا
التهرب من الموضوع:
_"لن تفهم يا
حسن.."
_"لم تظن أنني لن أفهم
يا والدي، كنت دائما تشرح لي جواب كل سؤال أطرحه عليك..أنت تعلم بأنك المذنب يا
أبي، لهذا تتهرب من الموضوع، تعلم أن أمي امرأة صبورة و لم تفعل ما فعلت
حتى ضاقت بها الأحوال، تعلم أنها لا تطلب منك أكثر من أن تستبصر طريقك ..، تريد
منك أن تفهم واقعك و أن تصلح و تعمل لمستقبلك، و هي بالمقابل مستعدة لخدمتك و
الوقوف بجانبك. نحن أسرة واحدة يا أبي، سنسعى نحو ازدهار حياتنا و جعل المحبة تسود
بيننا و تجنب كل ما يسيء إلينا، إلا أنك يا أبي، و بصراحة، من يعرقل كل هذه
المتمنيات، بيدك القرار، لكنك لا تعي حجم المسؤولية، تهدر ربحك الصغير في التدخين
الذي سيهلك صحتك لا محالة..، و كما قال جدي، من يبتغي الرزق فسيفعل من أجله
المستحيل، أنت يا أبي لا تنهض من نومك حتى تتوسط الشمس السماء و تريد كسب قوت
يومك؟..إن هذا و أكثر هو السبب فيما تعانيه يا أبي، و هذا ما تعيده و تكرره أمي
على مسامعك، و أنت ماذا تفعل؟ تضربها و تشتمها..عار عليك يا أبي.."
رمق الوالد ابنه بنظرة إعجاب
و سخرية ثم ابتسم و قال:
_"قلت لك يا بني أنك لن
تفهم"
يستمر حسن في المجادلة بلطف:
_"ما الذي لن
أفهمه؟..أعلم أن الأحوال في القرية غير مطمئنة بعد هجرة أغلب سكانها، أعلم أن
مداخيل الدكان غير كافية بالمرة، لكن حاول، فالاستسلام لا يجدي نفعا..إن أقلعت عن التدخين
و عملت بكل ما أوتيت من قوة فلن يخيب الله مسعاك،(إن الله بما تعملون بصير) صدق
الله العظيم"
صمت السيد إبراهيم رافضا
الرد، و كما يقولون، و السكوت علامة الرضا، فقد لمس بعض الحكمة في كلام ابنه. استمر يدخن و يرشف من كأس الشاي و
حسن ينظر إليه منتظرا إجابته إلى أن أتم استنشاق دخان السيجارة التي بيده، ثم قال:
_"أنتَ من أرتاح لسماعه،
كما أرتاح عندما أتحدث معك..، لا تعرف يا بني ما هو الإدمان..، أنا مدمن لذلك فمن
المستحيل أن أفارق هذا الخبث (و يشير إلى علبة السجائر)، لقد بدأت أدخن و أنا في
السادسة عشرة..، لن تتخيل مدى صعوبة التخلي عن شرب السجائر بعد كل هذه المدة من
الإدمان..، و قلتَ للتو أنني يجب أن أعمل بجد..، عملي الوحيد هو تسيير ذلك
الدكان..، أظل قابعا فيه طيلة النهار، و لا أجني من الربح في اليوم ما قد يكفي حتى
لابتياع رغيفين من الخبز..، لولا أني أستدين من بعض الأصدقاء لما وجدتم أنت و
إخوتك قوت يومكم..، ديوني أصبحت عديدة..، ماذا عساي أفعل؟؟"
يقول حسن:
_"فكر، فكر يا أبي في
عمل شراكة مع أحدهم، أو اذهب و اقترض مبلغا من المال من بنك المدينة و اشتري أرضا
صغيرة، و قم بزرعها مثلا"
_"كلها مشاريع فاشلة،
جربها معظم الناس هنا و لم ينجحوا، فلنقل الغلال إلى القرية المجاورة مثلا، حيث
يتواجد السوق الأسبوعي، لا يجد فلاحو هذه القرية وسيلة نقل إلا بمشقة الأنفس، و
بمبلغ مرتفع..، لطالما فكرت في مشروع يدر علينا ربحا لا بأس به، إلا أنني لم أجد
مبتغاي"
_"توكل على الله، و
جرب أنت أيضا، لربما حالفك الحظ.."
يطأطئ الأب رأسه مشيرا إلى
صعوبة الوضع ثم يقف و يقول:
_"الأفضل لك أن تهتم
بدراستك يا بني، أما المشاريع و كل هذا الكلام عن الدخل و الربح هو ما جعل شعر
رأسي يبيَضُّ..،سأذهب الآن للدكان"
فيغادر السيد إبراهيم البيت و
يترك حسن جالسا في مكانه يعيد صياغة الأفكار في ذهنه..(يتبع).
إرسال تعليق