رواية "لو كان الفقر رجلا لقتلته" الجزء 5

    


    خرج حسن و كله أمل في عودة أمه معه إلى المنزل، لتعود معها البسمة للوجوه و الراحة للنفوس. استمر في المشي يرجو الله أن يرق قلب والدته، رغم أنه يعلم أنها لن تتراجع عن قرار اتخذته إلا حين تظهر نتيجته. تذكر أباه الذي كان ما يزال نائما، ففكر في حاله و وثق من أنه سيكون الأكثر حزنا على غياب السيدة خديجة. حسن أعز أفراد الأسرة على قلب السيد إبراهيم، هما صديقان أكثر من كونهما أبا و ابن، تعلم منه حسن الكثير عن الحياة، و لكن ما جعل حسن يتحسر أكثر هي الحالة التي يعيش عليها الأب من إدمان للمخدرات غير مبال بالعواقب، فسأل الله أن يصلحه و يفتح بصيرته.
    وصل الصبي إلى حقل جده السيد عبد الله، وجده هناك يعتني بالأرض في جو ربيعي جميل، ألقى التحية عليه، فرفع الجد رأسه و عندما رأى أنه حفيده قال:
_"أهلا بك يا حسن، لم أرك منذ أسبوع، ما سبب غيابك عني كل هذه المدة؟"
_"إنها الدراسة يا جدي، أنت تعلم.."
_"وفقك الله يا بني و كان بجانبك"
ثم اقترب الجد من حفيده و عانقه قائلا:
_"أتيت من أجل والدتك، أليس كذلك؟"
_"نعم يا جدي، منذ أن تركت المنزل أمس و الجميع هناك حزين، هذا كله رغم أنها لم تكمل يوما واحدا على مغادرتها البيت.و كذلك هو حال أبي، إنه في حالة يأس.."
_"لو كان أبوك يعلم معنى اليأس و الحزن لما فعل بها ما فعل.."
يقاطع حسن جده قائلا:
_"إن أبي رجل طيب رغم ذلك، أعرفه أكثر من أي شخص آخر، لقد قال لي قبل أيام أنه يعي ما مدى سوء الوضع لكن ماذا يفعل؟ ما باليد حيلة، الأحوال راكدة في هذه القرية، و قال لي كذلك أنه فكر في بيع الدكان و البحث عن عمل آخر في المدينة، لكن المدينة لا تتعاطف مع الغرباء كما قال"
_"و ما فائدة أن يعود إلى البيت ثملا و يقوم بالاعتداء على زوجته؟"
_"لقد أغلقت في وجهه جميع الأبواب، و شعر باليأس، هذا بالتأكيد ما قاده إلى شرب الخمر.. و أنت تعلم أنه لا يحب أن يعاتبه أحد، و وقوف أمي في وجهه جعله غير قادرا على السيطرة على غضبه، لقد أخطأ و كل بني آدم خطاء"
_"أنا لا أعتقد أن والدتك ستتراجع عن قرارها"
_"لماذا يا جدي؟ لتكن صبورة معه هذه المرة أيضا، و أنا أعدها بأن أبي لن يكرر ما فعل"
_"لا أضمن لك يا ولدي أنك ستنجح في إقناعها، لكن لا عيب في المحاولة.. سأرافقك إلى البيت، هيا"
ترك حسن في نفسية السيد عبد الله شعورا طيبا بأن هناك من سيملك دوما رأيا محايدا في تلك الأسرة و يعمل على بقاء المحبة بين أفرادها، و فعلا كان حسن دائما خير مصلح و خير ناصح لوالديه، واقفا كصمام أمان لضمان استقرارها.
سار الجد و حفيده في الطريق على الدار، و حسن يفكر في طريقة لإقناع والدته بالأمر و هدم جدار تصميمها و عزمها ذلك.سأل الجد:
_"هل خالد و فاطمة بخير؟"
_"لا ينقصهما سوى تواجد أمي بالبيت.."
_"و والدك؟"
_"لقد غاب طيلة يوم أمس عن المنزل و لم يعد حتى وقت جد متأخر من الليل"
_" ما زال نائما؟"
_"نعم لقد تركته نائما عندما أتيت من المنزل"
_"ليس هناك سبب لمشكلاته هذه التي لا تنتهي سوى كسله هذا و تعاطيه لسم المخدرات..أعوذ بالله"
سكت حسن و لم يرد على ما قاله جده.
وصل الاثنان إلى بيت الجد، طرق الأخير الباب مناديا:
_"ابنتي خديجة ..افتحي الباب"
فتحت السيدة خديجة الباب و ما إن وقع بصرها على ابنها حسن حتى أخذته في حضنها و الدموع تملأ عينيها قائلة:
_"كيف حالك يا بني؟و كيف حال إخوتك؟"
يجيب حسن قائلا:
_"لسنا في أحسن أحوالنا بعد أن تركتنا أمس.."
ترد الأم مقاطعة:
_"لم أفعل ذلك بمحض إرادتي، والدك هو السبب"
_"إن خالد يا أمي يبكي بشدة، و يمتنع عن تناول الطعام و يطالب بعودتك، أما فاطمة فلم تنم ليلة البارحة أبدا، نحن كلنا جد قلقين، و أبي كذلك،لم نره البارحة قط و لم يعد إلى البيت إلا في وقت جد متأخر من ليلة أمس"
أطلقت السيدة خديجة العنان للبكاء و قالت:
_"اصبروا يا بني حتى أعود، أعدكم بأن لا أتأخر..إن السبب هو والدك الذي لا تهمه لا حياتكم و لا مستقبلكم، يجب أن تفهموا ذلك..."
يقاطعها حسن مسترسلا:
_"أين هو صبرك الذي اعتدناه يا أمي، ألم تمري بأوقات أشد محنة من هذه؟ أتتخلين عنا يا أمي بهذه السهولة؟"
_" أنا لم أتخلى عنكم يوما و لن أتخلى عنكم أبدا.. و لكن هذا هو الحل الوحيد لجعل والدك يستفيق من سباته"
فتعانق السيدة خديجة ابنها بشدة و دموعها تتناثر على الأرض أمام الجد السيد عبد الله الذي أحس بالأسى و ظل يراقب المشهد دون أن يتدخل.
يستمر حسن في الحديث:
_"أرجوك يا أمي رافقيني إلى البيت، إن خالد و فاطمة ينتظران عودتك على أحر من الجمر.. أرجوكِ يا أمي"
و فكرت للحظة، أرادت أن تسرع و تأتي بجلبابها، لكن مخيلتها استحضرت صور ما وقع بينها و بين زوجها فردت:
_"كونوا صبورين يا حسن أنت و إخوتك، لن أغيب طويلا..تعالوا و زوروني هنا كل يوم إن اشتقتم إلي، فأنا أيضا لا أطيق فراقكم و لو لساعة واحدة"
يتدخل الجد هذه المرة و يقول:
_"كوني صبورة هذه المرة أيضا يا ابنتي، ألم يحن الأوان ليلين قلبك؟"
زاد هذا الكلام من تأثر السيدة خديجة و زاد من دموعها إلا أنها ما تزال متمسكة بحبل الإصرار و عازمة على أن تكمل مخططها، قالت:
_"إنني أحبهم يا أبي و لا أستطيع تركهم للحظة و لكنني أتحرى مصلحتهم فقط لا غير..، اسمع الآن يا بني..عد إلى البيت، و اعتنوا ببعضكم البعض، سرعان ما سيأتي أبوكم إلى هنا و سأعود معه..أريد منه يصحح أخطاءه و يهتم بكم أكثر من اهتمامه بصرف نقوده في التدخين و شرب الخمر..أنت تفهمني، أليس كذلك؟"
يهز حسن رأسه موافقا و مستسلما أمام صوت والدته الدافئ، ثم يعانقها و يقول:
_"سأحضر كل يوم إلى هنا أنا و إخوتي لنزورك إلى أن تعودي إلينا"
ثم يعاود معانقة أمه و يقبل يدها و يد جده و يخرج عائدا من حيث أتى يجر معه أذيال الخيبة، غير راضٍ برد أمه عليه...
يقول السيد عبد الله لابنته:
_"الصبر مفتاح الفرج يا ابنتي، لو أنك عدت إلى منزلك و صبرت أكثر لأتى القدر بالحل"
تتركه السيدة خديجة دون أن تجيب، و تدخل إلى إحدى غرف المنزل الترابي باكية.
يعود السيد عبد الله بدوره إلى الحقل، و هو يفكر بأن الحل الوحيد لجمع شمل هذه الأسرة هو إقناع السيد إبراهيم ليعترف بخطئه، و    مفتاح الخلاص النهائي لمحنة هذه الأسرة هو إصلاح الزوج و هدايته إلى الصواب، فقرر السيد عبد الله أن يذهب بنفسه إلى دكان السيد إبراهيم بعد عصر اليوم ليحدثه في الموضوع...



Share this:

إرسال تعليق

 
Copyright © واويزغتــي | فين ما مشيت . Designed by OddThemes | Distributed By Gooyaabi Templates