رواية "لو كان الفقر رجلا لقتلته" الجزء 3

   



 ... تتابع السيدة خديجة السير متجهة نحو بيت أبيها السيد عبد الله، الذي لا يبعد كثيرا عن بيت زوجها و الذي كان من المفترض أن لا تغادره دون علمه، لكن الضرورة تبيح المحظورات كما يقال. السيد عبد الله، الرجل الذي يبلغ السبعين، طيب القلب، ما زال يداعب المحراث و المنجل في الأرض و يرعى أغنامه القليلة رغم كبر سنه، يعيش وحيدا، فقد توفيت زوجته السيدة عائشة منذ عشر سنوات، و ذلك بعد أن لدغتها حية و بقيت دون علاج لعدم وجود مشفى بالقرية، فأقربهم يقع على بعد ستين كيلومترا بأحد القرى المجاورة، و لو أنه لا يحتوي على معدات طبية تساعد على إنقاذها، فلم تحتمل السيدة سوى ست ساعات رغم محاولات العلاج التقليدية لأهل القرية الغير مجدية، و توفيت وهي في سنتها السابعة و الأربعين.
    تواصل السيدة خديجة المشي باكية بصمت تحت أشعة الشمس الذهبية بين دور القرية القليلة، و قد اقتربت من وجهتها، تفكر في أولادها و تدعو الله لكي يأتي زوجها في أقرب وقت لإعادتها إلى حضن أسرتها الغالية، فهي لا تطيق أن تبقى بعيدة عن فلذات كبدها، كما تتمنى أن يندم زوجها و يؤنبه ضميره و يهتدي إلى الطريق الصحيح.
... و تصل إلى وجهتها، فتطرق الباب و يفتح السيد عبد الله، فيفاجئ برؤيتها باكية، و يسألها بسرعة:
_"ماذا حل بك يا ابنتي؟"
يرتفع أنين السيدة خديجة و تتريث للحظة قبل أن تجيب:
_"لقد تشاجرت أنا و زوجي يا أبي"
تقولها و تقفز إلى حضن أبيها و دموعها تنهمر بغزارة، فيما الأب يسأل:
_"هل ضربك؟"
فتتراجع خطوة إلى الوراء و تطأطئ رأسها نافية، لكن، سرعان ما غلبتها دموعها فهزت رأسها هذه المرة مؤكدة أن زوجها قد اعتدى عليها بعد أن تأكدت من أنه لا مفر من قول الحقيقة خصوصا و أن بعض الكدمات قد زخرفت وجهها، فارتمت من جديد في حضن الأب الذي  تأسف للوضع و قال متحسرا:
_"لا حول و لا قوة إلا بالله..، ادخلي يا ابنتي..ادخلي"
يربت السيد عبد الله على كتف ابنته و يدخلها إلى المنزل ثم يجلسها و قد لاحظ أنها لا تنوي التوقف عن البكاء، فيقول:
_"اهدئي يا ابنتي، و امسحي دموعك فالمشكلة لن تحل بهذا الشكل.اذهبي و اغسلي وجهك، هناك إناء به ماء قرب الباب"
تنهض السيدة خديجة و تنفذ ما أمرت به ثم تعود وتجلس بالقرب من والدها الذي يبدأ في الاستفسار:
_"ما الذي كان سببا في الشجار؟"
تتغلغل عيون السيدة خديجة بالدموع من جديد، لكن السيد عبد الله يوقف مهرجان البكاء هذه المرة:
_"لا أريدك أن تبكي مجددا..و أجيبيني..ما سبب الشجار؟"
تمسح عينيها الباكيتين و تقول:
_"لقد عاد ليلة أمس إلى البيت ثملا"
يرد الأب:
_"ماذا؟..منذ متى بدأ يسكر؟"
_"لقد كان يسكر فلم أكن أخبرك بذلك، و لكن آخر مرة قام بذلك كانت منذ عامين تقريبا، بعد أن أنبته آنذاك..ها هو يعيد الكرة"
_"و لماذا قام بضربك؟"
ثم تعاود البكاء...فيقاطعها السيد عبد الله و يقول صارخا:
_"لقد سبق و قلت لكِ لا تبكي، دعينا نحاول حل المشكلة دون دموع"
يصمت الأب لوهلة حتى هدأت ابنته ثم يواصل:
_"أنا أعلم أنك لن تأتي إلى هنا لأنه ضربك و أرى أن هنالك سببا آخر"
تجيب السيدة خديجة بعد أن أخذت نفسا عميقا:
_"إنه لا يفكر في النهوض بأحواله المعيشية، رغم الحالة المزرية التي نعيشها معه أنا و أبنائي، فالطعام لا يكاد يكفينا و لا لباس جيد يسترنا، أنت يا أبي من يساعدنا من وقت لآخر بإعطائنا من غنمك و محصولك..، أما هو..، فأحواله راكدة في الدكان، لا يكاد يوفر بعض النقود تكفي لإطعامنا، و ما زاد الطين بلة، إدمانه على التدخين، فلم.."
يقول الأب مقاطعا:
_"أنتِ من وافق على الزواج منه، لقد حذرتكِ و قلت لكِ قبل زواجكِ بأنه رجل بسيط المدخول رغم أنه البقال الوحيد في القرية"
_"لقد ولى ما كان، و الآن أريد منه فقط أن يقلع عن التدخين و عن السكر و يفكر في المستقبل و يعمل و يكد، و أنا بدوري مستعدة للتضحية معه في سبيل بناء مستقبل الأولاد"
_"و هل تظنين أنه سيأتي الآن ليطلب المسامحة و يعيدكِ إلى بيتك بين أولادك؟"
_"آمل ذلك، فأنا لا أصبر على فراقهم.."
و من جديد، تلقي بنفسها بين أحضان الأب و تبكي بغزارة و تقول:
_"يا ما مرت علي محن و مصاعب مثل هذه فصبرت و صبرت..، لكن صبري قد نفذ، أريده أن يحدث نفسه و يراجع أوراقه، لم آت إلى هنا لكي أتركه يقاسي رفقة الأولاد هناك عبثا، فأنا أحبه و أتحرى فقط مصلحته و مصلحة أولاده"
إنه وقت الزوال، وقت رجوع الأبناء إلى البيت، هو يوم استثنائي بالنسبة لهم دون شك، لم يعتادوا العودة إلى البيت بعد المدرسة دون أن تكون الأم موجودة في استقبالهم، يقبلونها و يعانقونها.لم تعد فاطمة طعام الغذاء إلا بصعوبة و بمشقة النفس، فقد غالبتها الدموع، تبكي المسكينة بصمت، لا تعرف ماذا ستقول لشقيقيها عندما يصلان. أما السيد إبراهيم، فبعد أن خرج من معركته تلك، و بعد أن فجر قنبلة مسيلة للدموع في وجه الزوجة و الابنة، توجه مباشرة إلى البحيرة، مكانه المفضل لقضاء الأوقات الممتعة، لكنه اليوم ليس ملجأ للمتعة، قصده الأب ليسكت غضبه و يهدأ من روعه، ارتكن إلى جذع شجرة وافرة الظل، و بدأ يشاهد المياه الراكدة التي تلمع بانعكاس أشعة الشمس منها، استحضر مشاهد الشجار الذي دار بينه و بين زوجته و فكر في كلامِها، فهو يعلم أيضا أن أحواله ليست بخير، و يعلم أن المستقبل سيحمل الجديد، فإما تحسن الوضع أو تأزمه أكثر، يعي جيدا ماذا ينتظره، لكن مداخيل الدكان قليلة و إدمانه على التدخين لا يترك له أي فرصة، يوميا يفكر و يفكر و يفكر...فلا يجد حلا، فلا يجد متنفسا غير شرب الخمر، رغم علمه بأن هذا الأخير لا يزيد الوضع إلا تأزما و لكن ما باليد حيلة، هو الآن يعيش الواقع المر، فماذا عساه يفعل؟.تسلل الندم إلى نفسه، و كبره لا يوافقه الرأي، و يقول له أن ما يفعله ليس خطأ، فما دفعه إلى شرب الخمر إلا أرقه و مشاكله المتعددة و كثرة تفكيره في أحوال أسرته، هو مسؤول بعكس ما تقول زوجته، فهو دائما يحاول أن يجد مخرجا من قفص الفقر هذا الذي يسجن عائلته، و الآخرون يعتبرونه لا مباليا بالأمر.الحسرة بادية على محياه، ندم ندما شديدا على ما فعله ليلة أمس، لكن، فيما ينفع الندم؟؟

Share this:

إرسال تعليق

 
Copyright © واويزغتــي | فين ما مشيت . Designed by OddThemes | Distributed By Gooyaabi Templates