رواية "لو كان الفقر رجلا لقتلته" الجزء 2

 
law-kana-lfaqro-rajolan-laqataltoh



  ...في صباح اليوم التالي استيقظت الأم باكرا كعادتها لتعد طعام الفطور للأولاد بعد ليلة لم تذق فيها طعم النوم، ظلت تفكر في مصير هذه الأسرة إذا ما بقي حال الزوج على ما هو عليه، فملابسهم قليلة و أغلبيتها، إن لم أقل كلها، لم تعد صالحة بكثرة الرقع عليها و ضيقها خاصة على الأبناء، و مصاريف أداء فاتورة الكهرباء مرتفعة بالنظر للمستوى المادي للأسرة، تمنت السيدة خديجة لو لم تعمل الجمعية الوحيدة في القرية على ربط سكانها بشبكة الكهرباء، و قد كان ذلك منذ سنة، و تعذر عليها بالمقابل إمداد السكان بشبكة الماء الصالح للشرب، إذ ما زال السكان يعتمدون على مياه العيون المائية الكثيرة هنا، و في بعض الأحيان يلجئون إلى مياه البحيرة.كان كل ما يقلق السيدة خديجة هو مستقبل ابنيها، خصوصا الدراسي، إذ تشكل اللوازم المدرسية السنوية عبئا كبيرا على السيد إبراهيم، بل و على جميع الآباء هنا في القرية، لا يكادون يحصلون على القلة القليلة منها فقط، فعوض اقتناء ستة كتب مطلوبة مثلا، يشترون كتابا واحدا أو اثنين، زد على ذلك مشكل التنقل للحصول على هذه الكتب، فهي غير متوفرة هنا في القرية، و يجب التوجه إلى المدينة للحصول عليها.أما بالنسبة لفاطمة، فكم تتمنى السيدة خديجة أن تتزوج ابنتها من رجل يقطن في المدينة، و أن يكون قادرا على إعالة زوجته، و هي تعلم أن شباب القرية معظمهم عاطلون عن العمل أو يساعدون آباءهم في الحقول، فالفلاحة هي مصدر عيش غالبية السكان هنا في المنطقة، إذ إنها لا تريد لابنتها زوجا كالذي قدره الله لها هي، لأن همها هو أن ترى قرة عينها في مرتبة أحسن و أفضل و أن لا تقاسي آلاما كالتي عاشتها هي.
    أيقظت الأم حسن و خالد بعد أن أعدت الفطور، كالعادة اغتسلا و صليا معا ثم أفطرا و حسن يستحضر ما حدث ليلة أمس و هو يشاهد الكآبة بادية على وجه والدته. يوصل حسن أخاه إلى المدرسة ثم يكمل الطريق نحو الإعدادية التي يقضي فيها سنته الأخيرة، ليتوجه بعد ذلك إلى المدينة البعيدة بحوالي ثمانين كيلومترا، لعدم تواجد ثانوية لا بهذه القرية و لا بالقرى المجاورة، و لحسن حظه و حظ أبناء قريته أنها تحتوي على الإعدادية التي يأتي إليها أبناء القرى المجاورة.
    استيقظت فاطمة بدورها و ذهبت إلى الينبوع لتجلب الماء ذهابا و إيابا عدة مرات، إذ يجب عليها أن توفر ما سيكفيهم ليومين، يحتفظون به في أوان طينية.خرج الأولاد إذن من المنزل، و بقيت الأم و الأب الذي مازال يغط في نوم عميق بعد ليلة سكر متعبة.راحت السيدة خديجة تقوم بأعمالها المنزلية المعتادة من كنس و غسل و عجين...الخ، و هي تستعد لمواجهة الزوج بعد استيقاظه، لأنه حسب اعتقادها لا يعرف الوجهة التي يقود باتجاهها، فقد نفذ صبر الأم و قررت أن تضع حدا لتصرفاته اللامبالية.
    أفاق السيد إبراهيم و وقف بصعوبة وهو يحس بألم في رأسه، و ما إن غسل وجهه حتى قابلته بتهجم و صرخت في وجهه منفجرة كأنها قنبلة موقوتة:
_"ألا تستحيي؟ هل رأيت نفسك ليلة البارحة كيف كنت؟"
يرد الزوج صارخا بدوره:
_"ابتعدي عن طريقي، إنه الصباح و لا حاجة لي لأسمع ما ستقولينه الآن"
_"إلى متى ستبقى هكذا؟ نحن فقراء لا نملك سكنا لائقا و لا ملابس لائقة بالكاد نستطيع توفير طعامنا..و أنت؟..هه؟ ماذا تفعل؟   تحرق النقود في التدخين و الخمر،..إن كنت لا تبالي و وضعنا فاهتم فقط بصحتك، ألا تعرف أن معظم الأمراض سببها المخدرات؟"
_"ليس من شأنك، هذه النقود نقودي و هذا الجسد جسدي افعل بهما ما أريد،..هيا ابتعدي عن طريقي"
في هذه اللحظة بالذات، تصل فاطمة إلى باب البيت محملة بعشرة لترات من الماء في آنية فخارية، و ما إن سمعت الحوار العنيف بين والديها حتى تسمرت أمام المدخل خائفة و مذعورة دون أن تفتح الباب، و بدأت تنصت و أسنانها ترقص على إيقاع الخوف،...، و يستمر الجدال و تستمر الأم في الانتقاد بغلظة:
_"إن كنت لا تبالي بأحد، فلما أنجبت أولئك الأولاد؟..هه؟..قل،أأنجبتهم لتعذبهم معك؟".
_"لقد أكثرت من الصياح في وجهي، آخر مرة أحذرك فيها، ابتعدي جانبا و إلا أشبعتك ضربا".
و لكن السيدة خديجة تواصل العتاب غير مبالية بتهديدات الزوج:
_"أنظر إلى حالتك، انك كمن لفظه سجن و..آي..".
 و فجأة تتلقى الأم المسكينة صفعة قوية جعلت فاطمة تفتح الباب و تهب مسرعة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكن الأب بدأ يضرب السيدة خديجة بقوة على وجهها و ظهرها فيما تحاول الابنة جاهدة لكي تسحب أباها من ظهره نحو الخلف و الصراخ يملأ البيت، فجأة استدار الرجل الغاضب، و من دون أي سابق إنذار، صفع البنت هي الأخرى فسقطت على الأرض، تنهض الأم بدورها لحماية ابنتها صارخة في وجه زوجها:
_"ابتعد عن ابنتي أيها المتوحش.."
أمسك السيد إبراهيم زوجته وألقى بها فوق ابنتها ثم خرج منهيا معركة انتصر فيها غروره كالعادة، فيما بقيت الضحيتان تذرفان دموع الأسى و الألم، و الأم تمسك بابنتها و تمسح عينيها سائلة إياها:
_"هل أنت بخير يا عزيزتي،..ألم تتأذي؟"
تطأطئ فاطمة رأسها نافية، فيما تستجمع السيدة خديجة قوتها و تنهض فتبحث عن جلبابها الأبيض، في هذا اليوم الأسود، ترتديه ثم تساعد ابنتها على الوقوف و تربت على كتفها و تقول باكية:
_"اسمعي يا فاطمة..سأذهب الآن إلى منزل جدك (تتوقف فاطمة عن الأنين و يتسع قطرا عينيها)..سأعود قريبا أعدك،..اعتني بأخويك جيدا و اصبري يا ابنتي حتى أعود..، لقد طفح الكيل..سأغيب لأيام عله يعاتب نفسه و يحاور ضميره..إنه يعذبنا معه..لا تقلقي..سأعود بعد أسبوع إن لم يأتي لأخذي معه طالبا العفو".
يزداد عويل فاطمة و تزداد دموع الاثنتين..تقبل الأم رأس ابنتها و تضمها بقوة إلى صدرها ثم تتجه نحو الباب، فتقول فاطمة بلطف:
_" لا تذهبي يا أمي..أرجوك لا تذهبي"
تجيب الأم برقة أكبر فيما تعود لضم ابنتها:
_"اصبري يا ابنتي حتى أعود..ما أفعله من مصلحتك و مصلحة أخويك".
و تخرج السيدة خديجة بسرعة دون أن تلتفت، و فاطمة هناك لم تجد سوى البكاء وسيلة لتقنع والدتها بالعدول عن ما تريد فعله، لكن..دون جدوى، فالأم مصممة على وضع حد لما يقوم به زوجها، غادرت عشها الزوجي مكرهة تحت أنظار الابنة التي وضعت رأسها على حافة الحائط عند مدخل المنزل و استمرت في مراقبة والدتها حتى توارت عن الأنظار و قد غطت الدموع خديها الحمراوين...(يتبع).

Share this:

إرسال تعليق

 
Copyright © واويزغتــي | فين ما مشيت . Designed by OddThemes | Distributed By Gooyaabi Templates