"ﻫﻴﺎ إلى المنزل لقد تأخر الوقت"
هكذا نادت فاطمة على أخويها الصغيرين اللذين كانا يلعبان مع الأصدقاء بعد الآذان لصلاة المغرب. سارع الولدان مستجيبين لأمر أختهما التي كان يبلغ عمرها
العشرين سنة ،الساكنة بمنزل والدها إبراهيم
الحمداني ، إذ استسلمت بصعوبة لإرادته القاضية بتوقفها عن الدراسة بعد
حصولها على شهادة السلك الإعدادي و رغم تفوقها الواضح ، و قد شكل هذا الحدث نقطة
نزاع بين الوالدين و انتهى بعراك بينهما تدخلت فاطمة لإنهائه بالموافقة على رأي أبيها.
_"طلب منا الأستاذ إعداد
موضوع إنشائي حول البيئة" يقول خالد لأخيه حسن و هما في الطريق إلى البيت.
_"سأعينك على إعداده بعد
أن أنهي واجباتي أنا أيضا".
"التوأمان" هكذا كان يطلق على الأخوين
رغم أن حسن الذي يبلغ من العمر خمسة عشر سنة ، يكبر أخاه بخمس سنوات ، و ذلك للشبه
الواضح بين ملامحهما ، بل و إن تلاحمهما و سلوكهما المتشابه و كذا تفوقهما الكبير
في الدراسة كان سببا لهذا اللقب.
تسكن
أسرة الحمداني منزلا متواضعا قامت باكترائه من جارهم الطيب السيد محمد الفلاح ،
وسط قرية صغيرة شبه معزولة ، تقع قرب بحيرة جبلية في غاية الجمال.يتكون المنزل من
جحرين ..، عفوا... قصدت أن أقول غرفتين ضيقتين دون نوافذ و مطبخ ملائم نسبيا و
مرحاض تعاون الجاران (السيد إبراهيم و السيد محمد) على انجازه و لم يخططا لوضع باب
له فعوضاه بقطعة قماش داكنة اللون ، ولا تتصوروا حالا أفضل من هذه لسكان القرية ،
فقد كان هذا حال الميسورين منهم.
دخل الولدان و توضآ ثم صليا المغرب جماعة
وتفرغا للدراسة بعد أن قاوما الجوع ببعض الخبز و الشاي.
نسيت أن أخبركم عن السيد إبراهيم ، إنه رجل
متوسط القامة ، يرى الدنيا مظلمة ، شاب شعر رأسه بعد أن تضاربت به أمواج الحياة في
بحر اليتم إذ انه فقد والديه و هو في التاسعة من عمره على إثر تهدم منزل أسرته
الترابي أمام عينيه بسبب الأمطار، و لحسن الحظ انه كان خارجه ، فوجد نفسه بعد ذلك
وحيدا في الدنيا لا معين و لا معيل إلا الله ، له رآيه الخاصة و أفكاره الخاصة ،
يبالغ في الثقة بنفسه و لا ينفذ إلا ما تملي عليه ، سنه الآن تناهز الثامنة و الأربعين
يعيل أسرته تلك من عمله المتواضع:انه البقال الوحيد في القرية ، نجا من آفة الأمية
المتفشية في زمانه ، رغم انه لم يتجاوز أربع سنوات في الدراسة تعلم خلالها القراءة
و الكتابة ثم فر من المدرسة و لم يكمل سنته الأخيرة خوفا من احد المدرسين هناك ،
الذي كان ، و على حد قول السيد إبراهيم ، يضربه ظلما ، فقد كانت هذه قصته التي
يرويها مطولة لمن يسأله عن مستواه المعرفي.
...ما يزال الولدان يذاكران
في الغرفة ، أما هاجر و أمها السيدة خديجة ، فقد قبعا أمام جهاز التلفاز البالي في
الغرفة الأخرى، ذي الصورة بالأبيض و الأسود و جهاز الاستقبال الأرضي ، يشاهدان جنة
المدينة...
تقول الأم _"لو كنا في المدينة لما كنا
على هذه الحال".
ترد هاجر_"احمدي الله يا أمي ، إذا كنا
نحن في حال يرثى له كما تقولين ماذا سيقول أولئك الذين لا يجدون كسرة خبز يدرؤون
بها جوعهم؟ إن هنالك أناسا أكثر بأسا منا".
الأم_" أمرنا لله عز و جل..".
مع آذان صلاة العشاء، تقوم البنت و أمها
لإعداد الطعام فقد اقترب موعد رجوع السيد إبراهيم.
جهز العشاء على المائدة
و جلس الجميع في انتظار الأب لوقت طويل، ثم أعلن خالد ضجره بقوله:
_"إنني جائع يا أمي وغدا
يوم دراسي جديد، هلا أكلنا الآن و تركنا لأبي نصيبه..اشعر بالإرهاق و أريد أن أنام".
_ "حسنا، اقتربوا من
المائدة و لا تنسوا البسملة قبل الشروع في الأكل".
شرع الجميع في تناول الطعام بعد طول انتظار، و
بدأت المخاوف تتسلل لقلب السيدة خديجة حول زوجها ، فهو لم يعتد التأخر هذه الأيام
ولم يقل انه سيتأخر ، و تساءلت: ترى هل هو بخير؟هل من خطب ما؟هل عاد إلى السكر مرة
أخرى؟هل سيأتي إلينا ثملا هذه الليلة؟.يا رب استر.
ذهب الولدان ليناما، أما الأم
و ابنتها فبقيتا جالستين في انتظار الوالد.يزداد قلق الأم مع مرور الوقت، تحسست
فاطمة خوف والدتها و اضطرابها من ملامح وجهها، فقد كان يبدو عليها التوتر
بوضوح.نطقت الأم بنبرة رقيقة:
_"اذهبي يا ابنتي
لتنامي.. لقد تأخر الوقت".
_"لا يا أمي، سأبقى معك
انتظر".
ترد الأم و بشدة هذه المرة:
_"قلت لكي اذهبي
لتنامي..هيا".
تطيع الابنة هذه المرة، و
تتجه لغرفة شقيقيها و هي تفكر في مآل هذه الليلة، و تدعو الله أن يكون أبوها سالما،
بينما تضع الأم يدها على خدها و يزداد قلقها والساعة تكاد تشير إلى الثانية عشرة
منتصف الليل...
مرت نصف ساعة بعد ذلك، و فجأة سمعت السيدة
خديجة طرقا مدويا على الباب فتسمرت في مكانها لأول وهلة، لكن سرعان ما اتجهت نحو
الباب و سألت:
_"من الطارق؟"
_"هذا أنا، ألا تعرفينني؟
زوجك الحبيب"
فتحت الزوجة الباب، فوجدت
السيد إبراهيم يترنح في مكانه ثملا، فأمسكت به تعينه على السير و قالت:
_"هل عدت مرة أخرى إلى
السكر؟ ألا تفكر فيما سيقوله الناس؟"
_"أنا لم افعل
شيئا"
_"لم تفعل شيئا؟ و ما هذه الحال التي أنت
عليها الآن؟"
_"لقد فكرت فقط في أن أروح
عن نفسي قليلا رفقة أصدقائي"
_"الترويح عن النفس لا
يكون هكذا، انظر إلى حالتك الآن، إن منظرك تشمئز له النفوس، انك تطيل الجلوس في
الحانوت رفقة السجائر و الغليون، و ها أنت تذهب للسكر، ليس لدينا المال الكافي
لنشبع معداتنا و أنت تحرقه في هذه المحرمات بلا مبالاة لصحتك و لا لأولادك"
_"بدأت تحاسبينني أيتها
الشنآنة..أنا من يحاسب هنا"
_"سامحك الله، ادخل الآن
لتنام لكي لا توقظ الأولاد النائمين ولا تزعج الجيران"
_"من حقي أن أتكلم و أن
أصرخ ليس من شأن أي احد"
ثم تدخله الزوجة بسرعة إلى
الغرفة و تغلق الباب، بينما يتمدد هو على الأرض نائما بأعجوبة.في هذه الأثناء كانت
هاجر مستيقظة فهي لم تنم قط تنتظر وصول أبيها، و هكذا كان حال أخيها حسن كذلك،
ينصتان لما يجري بين الوالدين في سكون و
بخوف شديد و دون علم احدهما بان الآخر مستيقظ، فيما يغط الأخ الصغير خالد في نوم
عميق.لطالما كانت السيدة خديجة امرأة
صبورة جدا، و زوجة وفية و أما صالحة، رغم المآسي و العراك و الشجار الذي كان يشب
بينها و بين زوجها، و الذي وصل في كثير من الأحيان إلى حد الضرب من طرف هذا الأخير
لكنها بقيت ثابتة و ازدادت صبرا بعد كل محنة في سبيل أبنائها.إنها الآن تبلغ من
العمر تسعا و ثلاثين سنة، و قد اكتسبت تجربة واسعة من محن الحياة، و كونها مثابرة
و مجدة فقد ربت أولادها بحزم و رعت بيت أسرتها بهمة، تعلمت القراءة و الكتابة من
ابنتها، لأنها لم تلج المدرسة يوما و ذلك لكي تزيل غيمة الجهل من أمام عينيها و
تتزود بالعلم الذي كانت و ما زالت توصي به أبناءها.وضعت رأسها على الوسادة لتنام و
الدموع تملأ عينيها، فالأحوال لا توحي لها بأن مستقبل هذه الأسرة سيكون مشرقا...(يتبع).
إرسال تعليق