رواية "لو كان الفقر رجلا لقتلته"_ النهاية

   
law-kana-lfaqro-rajolan-laqataltoh-annihaya
... يوم آخر يمضي، و ما زال خالد على حالته، يرقد في فراشه، شبه ميت، يفتح فمه و عينيه طوال الوقت، دون حراك، و بجانبه والدته التي لم تذق طعم النوم منذ أن توفي حسن، منذ أسبوع، أسبوع ظلت خلاله الأسرة تتألم و تتأسف لرحيل فرع من فروعها، و ما زاد من حدة تألمها هو الحال المزرية التي أصبح عليها خالد، و الذي تعرض و على ما يبدو لشلل دماغي، فأصبح لا يتحرك ، لا يتكلم و لا يأكل، لقد كانت صدمة قوية، لم يقوى هذا الطفل على تحملها.تجلس السيدة خديجة بجانبه لا تفارقه كما لا تفارق الدموع عينيها، و الجد بدوره لا يتزحزح من مكانه، كان على مقربة من ابنته، يحاول تهدئتها كلما اقتضى الأمر ذلك، و غير بعيد منه ألفت فاطمة زاوية من زوايا الغرفة، تجلس و تتأمل شقيقها خالد بأسى و حزن عظيمين، لا تتوقف أبدا عن لوم نفسها و تحميلها مسؤولية ما وقع، لو لم تحكي لحسن قصتها البغيضة لما حصل كل هذا، لما قتل حسن مصطفى و انتحر، و لما كان خالد مستلقيا هنا من دون حراك، جسدا خائرا هربت الحياة منه و تركته يقاسي و يعاني، و تركت أسرته تعاني هي الأخرى، فكادت عيني فاطمة تنضبان، فمصيبتها هذه و العذاب الذي تعيشه الآن هو أهول من العذاب الذي لفها قبل أن تحكي لحسن ما حدث لها مع مصطفى، ولكن في ماذا سوف ينفع الندم؟.
    كانت السيدة خديجة لا تفارق خالدا، تتأمل وجهه فلا يبادلها النظرات، تكلمه فلا يبادلها الكلام، تهمس في أذنه فلا يرد، يرفض أن يبلع طعامه، و تسكب له الماء في فمه فيمر بعضه و البعض الآخر يعود ليرسم مساره على جانبي ثغره و عنقه، و كانت الأم كلما مسحت بمنديلها قطرة عرق تخرج من مسام جبينه، تمسح دمعة أو دمعتين تتدفقان من عينيها اللتين تخفيان كلاما ربما لو نطقت به لنظمت شعرا تغلب عليه لغة الحزن، تنتهي أبياته بقوافي تعزف لحن الحسرة و الألم.
بدت فاطمة متوترة و هي تعد طعام الغداء، لم تعد تقوى على الوقوف، ولم تعد تملك الصبر الكافي لتحمل أيام حياتها التي يبدو أنها تقسو في وجهها، تحس باختناق شديد، كانت مثل الشجرة التي تفقد كل يوم غصنا من أغصانها إلى أن تجتث تماما، فقدت والدها في ظروف مفاجئة، و ها هي تفقد شقيقها و تتسبب للآخر في وعكة صحية، إنها تحمل نفسها مسؤولية ما حصل. كيف سمحت لأخيها بأن يقتل، بل كيف سمحت لنفسها بأن تروي ما جرى لحسن، ذلك اليوم المشئوم، ليتها لزمت الصمت و تحملت عذابها ذلك، فذلك أهون من ما تحس به الآن.أرادت أن تسترجع بعض الذكريات التي قضتها مع حسن، و ذهبت لتتفحص أغراضه الخاصة من كتب و ملابس و دفاتر.كان شهما ودودا، بدأت تستنشق رائحة ملابسه و تضمها إلى صدرها، فهذا جلبابه الصوفي الجميل، و هذا سرواله الأسود المحبب، و ذلك هو القميص الذي اشتراه له والده عندما نال شهادة التعليم الابتدائي، ما زال نظيفا و صالحا، رغم كل السنوات التي مضت، و ها هي كراسته و أدواته التي يداعبها و يجد فرحته و هو يلامسها، اجتهاده و تفوقه ذهبا أدراج الرياح، كان أحد آمال هذه الأسرة ليصلح أحوالها، لكن، تجري الرياح بما لا تشتهيه السفن.و بينما هي كذلك، تبحث بين أغراضه، وجدت ورقة وسط أحد الكتب، بدا لها أنها  تحوي قصيدة، و مما لا شك فيه أن حسن هو الذي كتبها، إنه خطه بالتأكيد، لكنه لم يخبرها يوما بأنه يحب نظم الشعر،فتأملتها و أخذت تقرأها:
                                حياتي..حياتي بحر********أمواجه دائمة الهيجان
                                سفينتك لن تبحر فيه*******  و لن تبحر فيه سفينة القبطان
                                حياتي كلها فقر و ألم******* جعلتني أعاني و هي تتوعدني بالعذاب
                   حوصرت كل المنافذ و المخارج****** و أغلقت في وجهي كل الأبواب
                      حياتي ليس فيها من يواسيني********  سوى مخيلتي التي تغرقني في الأحلام
                  أحلام شتى تراودني صباح مساء****** و لا تكف عن مداعبتي في منامي
                     حياتي موضوع إنشائي طويل******* كلماته اقتبست من معجم الأحزان
                       كتبه قلم صاحبه عراف  **********يعلم ما في القلب و ما على اللسان
                      يا ربي إنني أدعوك           ********  و أستنجد بك في ليلي و نهاري
                       أن تحقق أمنياتي و رغباتي*********   و تعينني بقدرتك وتطفئ ناري

و ما إن انتهت من تلاوة هذه القصيدة حتى أجهشت بالبكاء، لقد أثرت فيها معاني هذه السطور، و أحست برغبة في الصراخ و المناداة باسم شقيقها المتوفى، إنه بالنسبة إليها الأخ الذي لا مثيل له، كان دائما يقف بجانبها، يواسيها، يحزن لحزنها و يفرح لفرحها، لم تكن بينهما حواجز تعيق التفاهم، أيام جميلة عاشتها معه تحت سقف هذا المنزل رغم قساوة ظروف عيشهم، فقد كان يضفي على البيت جوا حميميا، يصلح بين الوالدين إذا ما اختصما، يحسن معاملة أخيه الصغير و يحترم شقيقته الكبرى، و الأكثر من ذلك، استقامته و حبه لدراسته و لأهل القرية، لن تسامح فاطمة ذلك المذنب الذي نال جزاءه، رغم أنه توفي، إلا أنه حطم حياة هذه الأسرة يوم قرر مهاجمتها و اغتصابها، قضى بذلك على نفسه و على فتى في مقتبل العمر، قتله حسن و قتل نفسه و قتل أحلامه و طموحاته، و دفن معها أحلام عائلة بكاملها. لم تمض إلا أشهر معدودة على وفاة الأب، وهاهو الابن يقرر بنفسه و يختار الموت، و من الضحايا الآخرين، الأخ الأصغر الذي أصيب بمرض شديد ألزمه الفراش، حالته ليست على ما يرام. أحداث رافقت و سترافق وفاة حسن، لن تكون أحداثا سارة بالطبع، لكن الأمل في المستقبل يبقى كبيرا. أما السيدة خديجة فقد اكتفت من هول المصائب، و هاهي بجانب ولدها تسرد بدموعها التي لا تتوقف حكاية ألمها و معاناتها.
    كان صدر خالد يعلو و يهبط بسرعة، و نبضات قلبه تتسارع، أحست الأم بخطورة الوضع، و صرخت في وجه فاطمة لتحضر بعض الماء، و بسرعة جلبت فاطمة الماء و أخذت السيدة خديجة تنثر بضع قطرات على وجهه و تجعله يشرب منه، كان يُسمع لتنفسه صوت قوي، و فجأة أخذ يهز جسده و والدته تحاول تهدئته، بينما امتلأت عينا فاطمة بالدموع، و بدا للحظة أنه هدأ، أمسكت السيدة خديجة بيده و هي تترقب و تنظر في عينيه..بدأ يبطئ تنفسه، أغلق عينيه و ضغط بكفه على يد والدته..،ثم..توقف قلبه عن النبض، و أطلقت السيدة خديجة صرخة مدوية هزت أركان منزل أسرة الحمداني، لقد توفي خالد بدوره، و لحق بشقيقه و والده، إنها مأساة حقيقية.(النهاية)


                                                   

Share this:

إرسال تعليق

 
Copyright © واويزغتــي | فين ما مشيت . Designed by OddThemes | Distributed By Gooyaabi Templates